هو الموت البطيء الذي يواجهه «جيران» نهر الليطاني منذ بعض الوقت، فالنهر الذي كان قبل خمسة وعشرين عاماً المصدر الوحيد للأهالي هناك، يشربون منه ويروون مزروعاتهم، تحول منذ فترة إلى مصدر قلق لهم، بسبب تلوثه
البقاع ــ أسامة القادري
تفاقم التلوث البيئي وانعكاسه على صحة المواطنين القاطنين على ضفاف نهر الليطاني، وضعهم أمام خيارين حلوهما مرّ: الموت البطيء أو التهجير القسري. وتمثّل بلدة بر الياس في البقاع الأوسط، وقرى المرج وغزة وحوش الحريمة في البقاع الغربي، نموذجاً صارخاً للأثر الصحي المأساوي الذي يخلفه تلوث الليطاني، وخصوصاً انتشار الأمراض السرطانية والصدرية. لم يكن الليطاني قبل سنوات قليلة جاراً ثقيلاً، إذ تروي الحاجة السبعينية أم قاسم الساروط، التي تقطن بالقرب من النهر منذ خمسين عاماً، أنها وأهالي بلدتها بر الياس كانوا يشربون منه، قبل خمسة وعشرين عاماً. وتقول بحسرة «كنا نصوّل القمح ونشرب منّو، حتى الزراعة كان إلها طعمة وكلها غذا... أما اليوم، يا حسرتي، ما فيك تقطع من جنبه، الريحة بتقتل، فكيف السقاية منّو؟ أكيد بدها تعبّي فينا الأمراض». لا شرب ولا سقاية. والكل هناك مهدد، وخصوصاً أن في الجهة الغربية لبلدة بر الياس، عند إحدى ضفتي الليطاني، تجمّع مدارس يتعلم فيه نحو 3000 طالب وطالبة من مختلف الأعمار، إضافة إلى نحو 1500 مواطن مهدّدين بالأمراض الصدرية جرّاء ما يتنشقّونه من روائح.
تبدأ المعالجة بإفراج مجلس الإنماء والإعمار عن مشروع محطة التكرير
لكل هذه الأسباب، ينظر البقاعيون، بالكثير من الأمل، إلى برنامج العمل البيئي الذي أطلقه أخيراً، ابن منطقتهم، وزير البيئة محمد رحال. ينتظرون دخوله حيّز التنفيذ، وخصوصاً تنفيذ بنود المحور المتعلق بالتكييف مع تأثيرات التغير المناخي على الثروات الطبيعية، «بتطوير مفهوم مكافحة تلوث الأحواض عبر العمل على تطبيق ريادي في بحيرة القرعون». لكن، إلى حين التنفيذ، يؤكد الطبيب في أمراض القلب والشرايين النائب عاصم عراجي أن «70% من حالات سرطان الكلى والرئتين والبنكرياس، هي في المنطقة السكنية المحيطة لحوض الليطاني». جزم الطبيب يأتي من مقاربة تقديرية لمرضى السرطان في بلدات بر الياس والمرج وحوش الحريمة. ويحذّر من استمرار حرق النفايات، والتمادي العشوائي في استعمال الأدوية والأسمدة الزراعية. كما ينتقد «غياب التنسيق بين الوزارات، ما يصعّب الحلول». ويؤكد أن نواب المنطقة اتفقوا على جلسة مع وزير البيئة ورئيس الحكومة، لطرح مسألة التلوث، ومطالبة المسؤولين بإنجاز مشروع محطات التكرير. أما رئيس بلدية بر الياس، مواس عراجي، فيفتتح حديثه بإحصاء تقريبي لضحايا التلوث في بلدته، يقول بقلق على مستقبل أبنائها: «منذ أربع سنوات، فقدت البلدة مئة شخص أصيبوا بأمراض سرطانية، والحبل عالجرار». وأكد أن مدينة زحلة تحوّل مجاريرها عبر قسطل ضخم قياسه 80 إنشاً، وكذلك بلدات الفرزل وسعدنايل وتعلبايا مباشرة إلى نهر الليطاني، إضافة إلى الصرف الصناعي، لتكون سبباً في ارتفاع منسوب النهر عن طبيعته في الجهة الغربية من بلدة بر الياس، نتيجة تصلب النفايات، صيفاً بعد جفاف النهر وتحوّلها إلى حواجز تعوق جريانه، وحتى قتل أي نوع من الحياة النهرية فيه. ولفت إلى أن معالجة مشكلة الصرف الصحي لمدينة زحلة وجوارها تبدأ بإفراج مجلس الإنماء والإعمار عن مشروع محطة التكرير، ما دامت الدولة الإيطالية قد أمّنت الجزء الأكبر من الكلفة». وإلى حين تشغيل المحطة، يطالب عراجي مصلحة مياه الليطاني بتنظيف مجرى النهر من النفايات المتحجّرة، لتُحوَّل بعد ذلك كمية كبيرة من مياه الينابيع، في فصل الصيف، من مرتفعات زحلة إلى النهر منعاً لترسب الأوساخ في المنطقة المنحدرة. شكوى المواطن محمد مراد لا تختلف عن غيره، وخصوصاً انتشار الأمراض التي تسبّبها الملوثات والروائح الكريهة، يقول وهو جازم بتأكيده أنه لن يشاهد الحلول، ما دام حياً «يمكن ولادنا ما بيعيشوا لتنحلّ قضية التلوث، لو بقدر استأجر لكنت نقلت من زمان»، يتأفف الرجل وهو يفرك يديه متحسّراً على جاره الشاب الذي توفاه «المرض البشع»، ثم يتابع واصفاً الروائح الكريهة بأنها «صاحبة حكم مبرم، ريحة حاكمتنا بفصل الصيف، ما بنفتح شباك.. وزوجتي عندها الغدة، وابني مريض بالرئة».