تفتح استقالة المدير العام للآثار فريدريك الحسيني الباب على المشاكل التي يعاني منها هذا القطاع. في انتظار التعيينات الجديدة إضاءة على واقع المديرية والآثار
جوان فرشخ بجالي
بعد أيام سينشر في الجريدة الرسمية بيان قبول استقالة المدير العام للآثار، فريدريك الحسيني، الذي أمضى عشر سنوات في الخدمة لتبدأ بعدها عملية انتظار تعيينات المديرين العامين. لكن تعيينات أخرى في المديرية العامة للآثار بدأت قبل وصول المدير الجديد، حيث يجري العمل حالياً على الهيكلية الجديدة للمديرية، التي أقرّت السنة الماضية في مجلس النواب. وقد بدأ وزير الثقافة سليم وردة توقيع قرارات تعيين مديري الأقسام، ما قد يشكّل عائقاً كبيراً أمام عمل أيّ مدير جديد لم يتح له اختيار فريق عمله، فما عليه إلا التكيّف مع الواقع، ما قد يسبب تأخيراً في ورش العمل، ويؤدي إلى إدخال المديرية في سبات أعمق من الذي تعيشه حالياً.
لكن هذا ليس أبرز ما في تداعيات استقالة الحسيني، التي تفتح الباب عريضاً أمام المشاكل التي يعاني منها هذا القطاع. ذلك أنه، على مدى سنوات من إدارته للعمل، لم يستطع الحسيني أن يغيّر واقع المحافظة على الآثار، ومعه باتت معظم حفريات الإنقاذ في لبنان تتم على يد فريق واحد يحاول جاهداً التفاوض مع المقاولين لإعادة الآثار إلى العقارات التي رفعت منها. ولم تقدّم المديرية إلا إنجازاً واحداً يستحق الذكر على هذا الصعيد، هو المدرج الروماني في بيروت، في حين فقدت خلال هذه السنين استقلاليتها في إدارة ميزانيتها التي يعطى قسم منها لمجلس الإنماء والإعمار، لتتم عبره كلّ عمليات الترميم الكبرى.
الخطورة ان وزير الثقافة بدأ توقيع قرارات تعيين مدراء الأقسام
لهذه الأسباب وغيرها، يكتسب قرار التعيين أهمية خاصة لجهة البحث عن شخص يستطيع مواجهة كلّ هذه التحديات. ومن المفيد في هذا الإطار الإشارة إلى أنه بين من الأسماء المتداولة للتعيينات، موظفين من ملاك الدولة قد ينقلون من إدارة إلى أخرى، وهم لا يعرفون شيئاً عن الاختصاص، بل سيتعلمون «المهنة» خلال توليهم المهام ما قد يشكل خطراً إضافياً على القطاع. في المقابل، هناك أسماء مطروحة لعلماء آثار ذوي كفاءات عالية، ولهم خبرة في ميادين العمل، قد يعطي تعيينهم للاختصاص الدعم اللازم وقد يغيّر واقع المديرية العامة للآثار.
المعضلة الأولى التي تواجهها المديرية تكمن في دورها. هذه الإدارة العامة، التي يفترض بها الكشف على الآثار والمحافظة عليها، يتركز عملها حالياً، من وجهة نظر مديرها السابق «على تسهيل حياة المواطنين في معاملاتهم، لذا فإن أكثر من 5000 معاملة تنجز سنوياً في مكاتب الإدارة في كلّ أرجاء الوطن. ويحاول فريق عمل المديرية بشتى الطرق أن لا يؤخر الإعمار، فحفريات الإنقاذ جارية في مختلف المناطق، وطلاب الجامعات الذين يعملون فيها أصبحوا متدربين، لدينا اليوم جيل شاب مدرك لتقنيات الحفر».
الحفر، ربما، ولكن ماذا عن المحافظة على الآثار؟ هذا موضوع يبدو أن المديرية لم تستطع أن تفرض نفسها فيه. صحيح أنها كانت حاضرة على الأرض في كلّ المواقف، لكن حضورها كان دوماً «لطيفاً»، وغير مزعج. كانت تطالب بتنفيذ قانون الآثار، وتحاول أن تحافظ على المواقع، وتفاوض لكي تصل إلى هدفها من دون أن تفرض رأيها بقوة القانون... والمشكلة تبقى أن القرارت الكبرى في أيدي الوزراء. وحين تتهم المديرية بالتقصير كان الحسيني يصرخ: «نحن مديرية متروكة لنفسها، قلائل جداً يدافعون عنها، ونادرون هم من يهتمون لمشاكلها. كلما حاولنا الدفاع عن الآثار تبدأ الضغوط السياسية. منذ انتهاء الحرب والمعادلة القائمة بأن كل المساومات يمكن أن تكون على حساب التراث والتاريخ. فحينما أدخل على اللجان النيابية للدفاع عن أبنية بيروت التراثية، يأتي الرد من ممثلي الشعب بأنني أعيق التطور والنهضة الاقتصادية. التوجه لدى الشعب والدولة هو للإعمار وليس للمحافطة».
هذا أمر حقيقي وواقع مرّ، لكن الأمرّ منه أن المديرية العامة للآثار لم تكن ديناميكية في السنوات الماضية لتغيّر هذا الواقع. لم تكن خلّاقة في جذب الشعب اللبناني إلى الآثار، ولا في تحفيز الشباب على الدخول إلى ميدان الاختصاص عبر تأمين منح تعليمية لهم من البعثات الأجنبية، كما لم تحاول إشراك المؤسسات التعليمية والقطاع الخاص في مسائل المحافظة على التاريخ والتعرّف إلى التراث... لكنها عملت على تخليص ما يصلها من ملفات وتسهيل الطلبات المتأخرة دوماً. وهذه مشكلة أخرى يختصرها الحسيني بالإشارة إلى النقص في العنصر البشري، «لدينا 8 آثاريين لكل لبنان، ومهندس واحد». واقع حاول مجلس الخدمة المدنية تغييره سنة 2007 عبر التعاقد مع 13 أثرياً ومهندساً، لكن ستة منهم غادروا مناصبهم خلال سنتين. الحسيني يرد أسباب الاستقالات إلى تدنّي الأجور في القطاع العام، لكن بعض هؤلاء المختصين، المدركين لقيمة الأجور، كانوا متحمسين للعمل، وهم يؤكدون أن رحيلهم سببه الروتين الإداري، وهم لم يتوقعّوا يوماً أن ينحصر عملهم في الأوراق والرسائل اليومية! والمؤسف أنه بعد رحيلهم، لم تعمل الإدارة عبر مجلس الخدمة المدنية على استبدالهم، فعاد الوضع المأسوي إلى وضعه السابق.