strong>جاد نصر اللهالجدال حول شخصه وعمارته لا يخبو رغم مرور الوقت. مَن لا يعرف برنار خوري، لا بدّ من أنّه سمع على الأقل بـ B018، ذلك الملهى الليلي المزروع على شكل تابوت في أرض حيّ الكرنتينا (بيروت). «حُمِّل المشروع أكثر ممّا يحتمل. حتى وصل بعضهم إلى حدّ اتهامنا بالرقص على قبور الموتى!». بناء خوري الجنائزي هذا، أطلق شهرته المحلية والعالمية. كان هذا الملهى الباكورة الفعليّة للمعماريّ الشاب، وتوالت بعده المشاريع العمرانية الناجحة. مع الوقت، بقي هذا المكان الباطني الأكثر وقعاً، والأكثر حضوراً لدى المعجبين به، ولدى منتقديه على حدٍّ سواء. وربّما الأكثر تجسيداً لمسيرته المهنيّة أيضاً.
كل ما في برنار خوري يبعث على الاستغراب ويحرّك فيك الأسئلة، بدءاً من طريقته في اختيار الملابس مثلاً. يحيِّرك هذا «النجم» الذائع الصيت باختياره لمربَّع الكرنتينا الصناعي مقراً لمحترفه التصميمي DW5. هذا «الثقب في المدينة» ـــــ كما يحلو لخوري أن يصفه ـــــ محاصر بالطرق الوعرة من كل جانب، وبروائح النفايات المنبعثة من حوله. يصل إلى شركته على دراجته النارية، يدخل بها حتّى باب المكتب في أحد الطوابق العلويّة، عبر مصعد الشحن، وهنا يركنها إلى جانب سيارة «بورش» حمراء. هناك، يصمم أبنية غريبة في الشكل ومغايرة للمفاهيم المتّبعة. يُطلب منه ترميم مبنى أثري متداعٍ، فيتركه على حاله ولا يقوم إلّا بتغليفه بهيكل معدني صارخ في حدّته. كأنّه يضمّن مشروعه رسالة سياسية واضحة، من خلال جعله النقيض الحقيقي لخطط إعادة إعمار وسط بيروت التجاري. كأنّنا به يخاطب أنبياء إعادة الإعمار قائلاً: «رمّموا بهذه الطريقة».
يستفزّك أسلوبه السهل الممتنع، ويوقظ فيك الغيرة. رغم كل ما يثيره من ضجيج، فهو لا يجد نفسه مضطراً إلى تبرير تصرفاته لأحد! حتى حين تسأله لمَ كلُّ ذلك، فهو لا يملك إلّا أن يجيب: «ولمَ لا؟ ما الذي يمنعني؟». حتّى الآن، لم يحُل شيء دون تحقيق طموحاته. فعل ابن رأس بيروت كلّ ما يريده وعلى طريقته. لعلّ سحر هذا المعمار يكمن في أنّه ما زال يحتفظ بجنون تلامذة كليات الفنون في سنوات دراستهم الأولى، حيث لا تخضع أفكارهم المجنونة لضوابط الواقع. الفارق أنّ المتخيَّل عنده يستحيل حقيقة ملموسة. حين نال درجة الماجستير في العمارة من «جامعة هارفرد»، عاد إلى لبنان، محمَّلاً بخبرته في الخارج التي غيّرت فيه الكثير. رغم تأثره الشديد بأبيه المعمار خليل خوري، عرف منذ البداية أنّه «معمار خطر»... لن يستطيع العيش في ظل والده. لم يتقبّل فكرة أن يكون موظفاً يلتزم بدوام عمل معيّن، ويكلف بمهمّات لا تعبّر عن كلّ ذلك الجنون الذي يعتمل داخله. لهذا السبب، بادر إلى مغامرة محسوبة... استولى على حيّزٍ صغير في معمل العائلة للمفروشات في منطقة الزوق (شمال بيروت)، وهناك أطلق ورشته الخاصّة: مكتب وكراسٍ... وكانت بدايته المستقلّة.
واكبت انطلاقة المكتب نقاشات صعبة وحادّة. مفاهيمه الجديدة لم تلقَ الرواج سريعاً، وما خطّه على الورق، لم تهضمه عقول زبائنه وأذواقهم. من معمل أبيه، نقل مكتبه إلى دكان صديق له في السوديكو. بعد مرور خمس سنوات، من دون أيّ نتيجة تذكر، قرر أن يقوم بضربته الكبرى، فاقتحم «قطاع الترفيه». تشارك ورفاقاً له على قطعة أرض في الكرنتينا تحمل رمزيّة خاصة لما شهدته من فصول الحرب الأهلية اللبنانية... كان هو الزبون والمعمار في آن واحد، فبنى بحريّة. حفر عميقاً في الأرض، مبتكراً فضاءً لعلبة ليل جرّت عليه وابلاً من الانتقادات قبل أن تصبح قِبلةً للسهّيرة والسيّاح.
بعد الـ B018 ، كرّت سبحة المشاريع «الجدّية في قطاع الترفيه»، ضمن برنامج وظائفي مدروس بعناية. يصرّ خوري على أنه لم يأت يوماً بعمارة ساذجة، وأنّ كل مشروع صمّمه وبناه يحمل رسالة واضحة لا تحتاج إلى تفسير. ترجم انخراطه في الحاضر ـــــ أو احتياله عليه ـــــ من خلال خوضه غمار الأعمال. تحوّل إلى المصمم والزبون والمسوّق للمُنتَج في آن واحد. وضعته هذه الصيغة على ضفة آمنة، وسمحت له بالتعبير عن رؤاه بحريّة، وضمنت استقلاليّته.
بصراحة صادمة، يعتقد «أن الشعوب العربيّة لديها مشكلة جدّية مع التحضّر»، وأنّ العالم العربي لم يحسن كتابة تاريخه. أمّا مظاهر الحضارة التي حاول التمثّل بها، فخلقت أشياء هجينة حتى في استعادتها لعناصر الشرق التراثية. «المشربية»، ذاك الجزء من المبنى الذي يمتدّ فوق الشارع، ويتميز بنقوش وزخارف، والمبطّن بالزجاج الملون، «تحوّل إلى «كليشيه» على رأس عناوين فرعية منسوخة من نماذج أنغلوساكسونية». يجاهر خوري بأنه «مواطن من العالم يعيش في لبنان»، لا ينتمي إلى مدرسة أو تيار فكري محدد في العمارة، لأنّها «لم تعد موجودة في أيامنا هذه».
بعد الملاهي الليلية، صمّم عدداً من مباني المصارف التجارية التي تنضح بذكاء أكيد. وفي السنوات الأخيرة، ركز جهده على تصميم المباني السكنية في مربعات ضيقة داخل أحياء بيروت، مظهراً براعته في تجسيد طراز معماري مختلف، يبرز نمطاً جديداً في الحياة الاجتماعية لشريحة واسعة من الشباب اللبناني. درّس خوري في «الجامعة الأميركية في بيروت» لبعض الوقت، وحلّ ضيفاً على «جامعة لوزان»، وحاضر في العديد من الدول الأوروبية، لكنّ التعليم يبقى تسلية بالنسبة إليه، فهو في النهاية لا يملك له الوقت الكافي لخوض التجربة إلى
آخرها.
معمار خطر. راقص على قبور الموتى. نجم استعراضي أو معمار نجم... كثيرةٌ الصفات التي تلاحق برنار خوري وتلتصق باسمه وصيته. لا يمكنك أن تجول في بيروت، من دون أن تشير بالإصبع إلى أعماله، لما تختزنه من قيمة فنية خارج السائد. أبنية تضع مشهد العمارة اللبنانية على منعطف جديد غير تقليدي... قد لا يستسيغه كثيرون.


5 تواريخ

1968
الولادة في رأس بيروت

1993
بعد ماجستير في العمارة من «جامعة هارفرد»، افتتح مكتبه الخاص في لبنان

1998
بنى الملهى الليلي B018 في الكرنتينا (شمال بيروت) وانتشرت سمعته عالمياً

2001
كرّمته بلدية روما بمنحه جائزة Borromini للمعماريين تحت الأربعين

2010
يلتقي عند الثامنة من مساء اليوم المعمار الفرنسي رودي ريتشيوتي ضمن لقاء يتناول الهويّة في العمارة، في «مركز بيروت للفنّ» BAC (جسر الواطي/ بيروت). للاستعلام: 01/397018