تنتشر محال بيع القطع الأثرية في القدس وباقي المدن الفلسطينية المحتلة. التجار إسرائيليّون والقطع مسروقة من أرض فلسطين. فصعوبة الحياة اليومية على إحدى أقدم مناطق العالم باتت الدافع بالسكان نحو المواقع الأثرية لتدميرها بحثاً عن تحف ترغب بها السوق
جبل الخليل ـ أسامة العيسة
مئة ألف قطعة أثرية تهرّب كل سنة من الأراضي الفلسطينية إلى إسرائيل حيث تباع في سوق الآثار. إنها عملية استنزاف للتاريخ القديم في فلسطين، عملية يجريها الفلسطينيون أنفسهم لتأمين مستلزمات الحياة. فالجدار العازل، والمعابر وصعوبة الحياة تدفع بالمواطنين إلى الحقول والجبال بحثاً عن مقابر ومواقع أثرية يدمرونها في سبيل العثور على قطع أثرية يرغب بها التجار الإسرائيليون. وينتشر «سارقو الآثار» أو المنقبون عنها في القرى والمناطق كلها، وعادة يلتزمون الصمت حيال عملهم. لكن أحمد خليل الرجوب (70 عاماً)، قرر أن يكسر جدار الصمت وأن يخبر عن تجربته الواسعة في أحد أكثر الملفات المؤلمة والمسكوت عنها في التاريخ المعاصر لفلسطين.
يسكن الرجوب في بيت مقدوم، وهي من مجموعة كبيرة من القرى تقع جنوب مدينة الخليل التي أصبحت عام 1948 ضمن المواقع الحدودية مع دولة إسرائيل. ومثّلت هذه المنطقة تاريخياً حلقة الوصل بين السهل الفلسطيني، وصحراء النقب وقطاع غزة والجبال الوسطى، لذا، هي تضم مئات المواقع الأثرية التي تعاقَبت عليها الحضارات: من العصر البرونزي، والنحاسي والحديدي، إلى البيزنطية والصليبية والإسلامية. ما حوّل هذه المنطقة إلى مكان مثالي للمنقبين عن الآثار وتجّارها غير الشرعيين ولبعثات التنقيب الأجنبية والإسرائيلية، التي عملت باكراً في فلسطين بحثاً عن تاريخها التوراتي.
وليس هناك موقع أثري في هذه المنطقة لا يظهر فيه أناس يحملون ماكينات كشف المعادن، بحثاً عن أي قطع أثرية لبيعها، وهم يفعلون ذلك، يدمرون المواقع الأثرية، وأية قطع فخارية أو زجاجية أو عملات، قد يكون لها سعر معقول لدى تجار الآثار الإسرائيليين، الذين يدفعون بسخاء في كل ما يعتقدون أنه يتعلق بآثار يهودية في فلسطين.
مع ازدياد معدلات البطالة، أصبح التنقيب عن الآثار أسلوب حياة
يقول الحاج الرجوب «بعد حرب عام 1967، أصبح الناس بحاجة ماسة إلى العمل، فبدأنا للمرّة الأولى نعمل في الآثار، التي كانت تظهر لدينا عرضاً في بادئ الأمر، عندما نحفر بئراً مثلاً، أو أساسات منزل، وكنا نجد قطعاً فخارية، لا نعرف أهميتها، وعادة ما كنا نتخلص منها، حتى بدأت وفود التجار الإسرائيليين والعرب تصل إلينا. يسمعون بعثورنا على آثار ويشترون منا ما نعثر عليه، فحدثت حركة تنقيب واسعة تحت سمع السلطات الإسرائيلية وبصرها. وفي إحدى المرات، أخبرنا تجار آثار أن موشي ديان الذي كان وزيراً للدفاع آنذاك سيأتي إلينا فخفنا في البداية، ولكننا لم نتوقف عن العمل، وعندما أتى سأل عن تابوت فخاري كنا وجدناه في أحد القبور، ففتحنا القبر مجدداً، فأخذه ديان فرحاً بغنيمته، وطلب منا الاستمرار في التنقيب وكنا آنذاك نعمل في خمسة قبور».
وشهادة الرجوب في موشي ديان بالغنى عن التأكيد، فالتاريخ الشخصي لديان حافل بسرقة الآثار واحتوائها في مجموعته الشخصية. ويقول الرجوب، إنه رغم مجيء بعثة أميركية للتنقيب في المنطقة، في بداية سبعينيات القرن الماضي، إلا أن التنقيب غير الشرعي استمر، واكتسب السكان «ثقافة أثرية» معينة، عندما رأوا علماء الآثار الأميركيين يغسلون القطع الفخارية، لمعرفة إذا كانت تحوي كتابات أم لا، وهذا فتح مجالاً جديداً للمنقبين غير الشرعيين، وخصوصاً أن القطع الفخارية التي تحمل نقوشاً سعرها أغلى بما لا يقاس مقارنة مع غيرها.
يضيف الرجوب: «كشفنا عن قطع أثرية لا تُعد، منها الفخاريات التي تحمل كتابات، وقطع الأوزان المرقمة، والسكرب، والعروس، وغيرها».
ويقصد بالسكرب في لغة منقبي الآثار غير الشرعيين، قطعاً صغيرة من الخرز عليها كتابات، وتباع الواحدة منها بنحو 8 آلاف دولار، أما العروس فيقصد بها الآلهة عشتار أو الآلهة الأم، التي كانت تعبد في العصر البرونزي من جانب الكنعانيين، وحظيت باحترام كبير في العصر الحديدي، الذي يصنّفه علماء الآثار بأنه عصر الإسرائيليين.
مع ازدياد معدلات البطالة، أصبح التنقيب عن الآثار أسلوب حياة ووسيلة لتأمين المعيشة بعد بيع القطع للإسرائيليين! وما يزيد من فداحة المشكلة، الشائعات التي تتحدث عن العثور على كنوز من الذهب، ما يدفع البعض إلى تدمير معالم أثرية، بحثاً عن المعدن اللامع. وقد حدث ذلك في البرك سليمان التاريخية جنوب القدس، حيث دمر مجهولون موقعاً، بواسطة البلدوزر، معتقدين أنه خزنة ذهب.
ويخبر منقبو آثار غير شرعيين أن القطع التي يعثرون عليها يعرضونها على تجار يمكن وصفهم بالوسطاء العرب، يتجولون في مواقع التنقيب، ويحملون ما يجدونه بعد أن يدفعوا ثمنه، وينقلوه إلى تجار عرب في القدس الشرقية، أو مباشرة إلى تجار إسرائيليين، وفي حالات أخرى، يصل التجار الإسرائيليين إلى مواقع معينة ويلتقون المنقبين لشراء ما بحوزتهم، أو يأتون إلى أماكن التنقيب، وخصوصاً أن معظمها تقع في مناطق (ج) الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية المباشرة، وفي حالات ليست قليلة يعمد جنود إسرائيليون إلى سرقة بعض الآثار الظاهرة، التي لها ثمن عال، مثل فوهات الآبار أو حجارة المعاصر القديمة الدائرية، وحتى شجر الزيتون المعمّر، خلال وجودهم في المناطق الفلسطينية. وعندما تتحرك الشرطة الإسرائيلية، فإنها تتصرف مثل عصابات سرقة الآثار المحترفة، كما حدث قبل أشهر، عندما نصبت فرقة من هذه الشرطة كميناً لاثنين من الفلسطينيين أرادا بيع مخطوطة قديمة لتجار إسرائيليين، فقبضت عليهما الشرطة وصادرت ما بحوزتهما، وأطلقت سراحهما بعد التحقيق محتفظة بالمخطوطة في أرشيف دولتها.


إسرائيل تحمي التجّار

جوان فرشخ بجاليوحبّ الإسرائيليين للقطع الأثرية لا يتوقف عند قيمتها الشرائية، بل يتخطّاها ليصل إلى المعتقدات الدينية. فالإسرائيليون هم في عملية بحث دائمة عن القطع المرتبطة بالتوراة والعهد القديم، وكلّ ما يمكن من خلاله إثبات وجود قبائل يهودية في هذه البقعة من العالم، إذ إنّهم يستغلّون وجود القطع الأثرية، ولا سيّما المزيّنة بكتابات عبرية لتثبيت حقهم في الوجود، وتأكيد شرعية دولتهم. ومع الأسف، تقف السلطات الفلسطينية لترثي وضع الآثار في فلسطين وتبكيه، ولا تعمل بجدّية وفعّاليّة على تغيير ذلك الواقع. فقانون الآثار المعمول به يعود إلى خمسينات القرن الماضي، ولا يجيز فعلياً أي عملية سرقة، كما أن مفاوضات السلام لم تشمل حتى الآن ملف الآثار. وإن بقي الوضع على حاله، فدولة فلسطين قد تنتهي دون تاريخ.