Strong>بشير صفيرإن زرته في بيت شباب (المتن)، أو التقيته مصادفة، أو كلّمته على الهاتف، يصعب ألا يكون صوت الموسيقى مرافقاً لأي احتكاك مع كمال قصّار. يُجري اتصالاً، ويتلقّى آخر، فتكون الموسيقى محور المكالمة. قد يتصل بصديق في أي وقت لإبلاغه أنّه اكتشف مقطوعة نادرة أو أغنية قديمة، ثم يسمعه ذلك «الاكتشاف» على الهاتف.
«كنت طفلاً أتتبّع على الراديو أغاني ليلى مراد التي عشقتها ولم أكن أعرف اسمها»، يقول المحامي الستّيني، وهو يقصّ علينا حكايته مع الطرب.« أيام المدرسة، تعرّفت إلى صوت أم كلثوم. كنت أنتظر يوم الخميس كي أسمع أغانيها في برنامج إذاعي في الخمسينيّات». علاقته بالموسيقى العربية تقابلها معرفة عميقة بالموسيقى الكلاسيكية الغربية. الشرارة الأولى كانت السمفونية التاسعة لبيتهوفن: «شهقت عندما سمعتها. اشتريتها ورحت أكررها، ودخلت منها إلى هذا العالم». وقُبَيل الحرب، اكتشف المطربة ماري جبران خلال بحثه عن الغناء الجميل: «لم يكن صوتها يفارقني حتى خلال النوم».
في 1967، التحق كمال قصّار بالجامعة اليسوعية (كلية الحقوق). عمل وقتذاك موظفاً في التفتيش المالي ليسدد أقساطه، واستغل وجود فرعٍ للكونسرفتوار قرب مركز عمله، فتابع دروساً في العزف على الفلوت لأربع سنوات. أما شهادة المحاماة، فحازها عام 1972. من مرحلة السبعينيات الذهبيّة، ما زال يحتفظ بصور كثيرة. «كانت الجامعة تضمّ معظم الذين أصبحوا في ما بعد رموز الحرب الأهلية، أمثال بشير الجميّل وجورج عدوان. وكنا، كيساريين ومناصرين للمقاومة الفلسطينية، في نزاع سياسيّ دائم معهم. كانت فترة نضال قاسية في اليسوعية».
كان تعرّف هذا المحامي إلى صوت أم كلثوم في الخمسينيات، بابه نحو توثيق الموسيقى العربية
لكنها لم تكن أقسى من تجربة الموت الذي قابله وجهاً إلى وجه. في فترة تدرّجه، نجح في الحصول على إخلاء سبيل رجل قُبض عليه خلال إحدى التظاهرات الكثيرة تلك الأيّام. لدى خروجه من السجن، اتجه الرجل نحو محاميه وعانقه شاكراً. حركة عفوية كانت كافية كي ينقل إليه عدوى مرض قاتل. دامت حالة الخطر الشديد أكثر من شهر. ثم ظل كمال أشهراً طريح الفراش، فكتب بحثاً معمَّقاً عن طانيوس شاهين (ثورة الفلاحين)، نشرته آنذاك مجلة «الأخبار» في ملحق خاص. كذلك سجّل عشرات الكاسيتات من الطرب العربي عن إذاعتَيْ «إسرائيل» والكويت. «ما زلت أحتفظ بتلك الأشرطة»، يقول مبتسماً.
خلال الحرب الأهلية، ألّف موسيقى مسرحيّة شهيرة لجلال خوري، هي «الرفيق سجعان»، التي شهدت يومذاك نجاحاً واسعاً. وحين اقتَبسَ مخرجون ألمان المسرحية، طلبوا استخدام الموسيقى الأصلية التي كتبها قصار.
«اعتزل» كمال قصّار العمل السياسي، بعدما كان مناضلاً في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني: «بعد دخول الجيش السوري إلى لبنان في عام 1976، أدركت أن السياسة تحوّلت إلى مواقف انتهازية». في الفترة ذاتها، كانت تجتمع دورياً شلة الأصدقاء، في بيت قصار أو في منزل أحد أفراد الشلّة. لم يكن الهدف سياسياً هذه المرّة، رغم كوننا في دوّامة الحرب الأهليّة، بل لإقامة جلسات ارتجال لثنائي فلوت وغيتار بين كمال والفنان مخول قاصوف. الصديق الأقرب إلى قصّار حينذاك، كان مارون بغدادي. سكن المخرج الراحل عنده طيلة الفترة الأولى من الحرب. وما فيلم «حروب صغيرة» الذي كتب كمال حواراته، سوى مشاهد استلهمها السينمائي اللبناني الراحل من يومياتهما. الأمر نفسه ينطبق على باكورة بغدادي الروائيّة «بيروت يا بيروت» عشيّة الحرب. الفيلم يروي إلى حدّ ما قصة تعارفهما وصداقتهما. هذه الذكريات هي الأعز إلى قلب قصّار: «كنا نقضي ساعات نسمع الموسيقى. وكان مارون يعشق الغناء العربي الأصيل». يستعيد كمال ذكرى صديقه بدمعةٍ يعجز عن إخفائها. عند مصرع بغدادي عام 1993 إثر سقوطه عن درج بيته في الأشرفيّة، «عشتُ أصعب لحظة في حياتي. وتعطّل جزء كبير من ذاكرتي... ولمّا يزلْ معطّلاً».
في 1976، فوجئ كمال بمرسيل خليفة يركن سيارته أمام منزله في باريس، التي كان قصّار قد سبقه إليها منذ أشهر. يومها، أسمعه مرسيل أغنيات، كان قد لحّنها في منطقة عمشيت (جبل لبنان) قبل خروجه من «المنطقة الشرقيّة»، التي كانت تحت سيطرة اليمين الانعزالي. تلك الأعمال ستصدر في أسطوانة «وعود من العاصفة»، الألبوم الذي سيكتب كمال عناوين الأغنيات الواردة فيه (كما النصّ المرفق) بخط يده، بسبب عدم توافر الحرف العربي في المطبعة الباريسية. وبعد «وعود من العاصفة»، تكوّنت حول خليفة الفرقة التي أطلق عليها قصّار أيضاً اسم «الميادين».
عاد إلى بيروت عام 1977، ثم غادر مجدَّداً إلى باريس عام 1985 واستقرّ فيها حتى 2000 (عمل مستشاراً قانونياً في إحدى الشركات). يستعيد هنا لقاءاته بزميلنا الراحل جوزف سماحة، وقد تجدّدت في باريس خلال تلك الفترة. يتذكر جلسات النقاش وسماع الغناء الطربي الذي كان يعشقه جوزف. لم يزر بيروت خلال تلك الفترة إلا لماماً. في 1993، عاد ليلقي النظرة الأخيرة على مارون: «دفنته. وشهدت، بعد أسبوع فقط، ولادة ابنه الذي سمَّته والدته كمال، نزولاً عند رغبة والده».
كتب حوارات فيلم «حروب صغيرة» لمارون بغدادي، واعتزل العمل السياسي مع دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976
لدى عودته النهائية إلى بيروت، بدأ كمال بالبحث الجاد في الموسيقى العربية، فاستبدل الفلوت بالناي، واستأنف هواية العزف. في عام 2006، انتقلت مصالح العائلة الاقتصاديّة إلى دبي بسبب العدوان الإسرائيلي، أو «بسبب النصر الإلهي» كما نتركه يقول متهكّماً... فما يهمّنا هو التتمّة: «هناك، شرعت في البحث عن الموسيقى الشرقية عبر الإنترنت (في المنتديات). والاكتشاف الكبير كان كنوز عصر النهضة (قبل الأربعينيات) التي استحوذت على كل اهتمامي». على المنتديات، تعرّف إلى فريدريك لاغرانج، المستعرب الفرنسي، وخبير الموسيقى العربيّة الذي أخبره عن «مكتبة العناني».
وجد نفسه فجأة أمام واحدة من أندر المكتبات الموسيقيّة العربية في العالم. جمعها المؤرّخ الموسيقي المصري عبد العزيز عناني. فشلت إسرائيل في شرائها ـــــ من خلال وسطاء كانوا يدّعون تمثيل مؤسسات عربية أو مصرية ـــــ رغم محاولات عدّة، في حياة صاحبها، ثم بعد رحيله عام ألفين. تحوي هذه المجموعة آلاف ساعات التسجيل النادرة، إضافة إلى كتب عن الموسيقى لا تقدّر بثمن. لقد حقّق قصّار «نصره الدنيوي» على إسرائيل، إذ وافق ورثة العناني على بيعه الكنز الذي بات حجر الزاوية لقيام «مؤسسة البحث والتوثيق في الموسيقى العربية» AMAR، لحفظه ونشره بين الناس. وقد أُعلنت المؤسسة أخيراً، رسمياً، خلال مؤتمر صحافي في بيروت.
الخطوة المقبلة ستكون البحث عن كنوز منسية أخرى، في الأرشيفَيْن السوري واللبناني. المحامي ورجل الأعمال والمثقّف الذي يهوى رياضة الغطس، سيمضي إذاً خلف شغفه الأكبر: «ما زال أمامنا عمل شاق»، يردّد كمن يخاطب نفسه أوّلاً. لكنّه مشروع يستحقّ العناء حقّاً... البحث عن تسجيلات ووثائق أساسيّة في ذاكرتنا الموسيقيّة، ثم العمل على أرشفتها وحفظها، وأخيراً وضعها في متناول الجمهور العريض.


5 تواريخ

1948
الولادة في بيروت

1974
ألّف موسيقى مسرحية «الرفيق سجعان» لجلال خوري

1993
رحيل مارون بغدادي كان الحدث الأكثر إيلاماً في حياته

2007
اشترى مكتبة العناني الموسيقية

2010
أطلق «مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية خلال مؤتمر صحافي أقيم منذ يومين في بيروت. ومشروعه المُقبل البحث عن كنوز منسية في الأرشيفَيْن السوري واللبناني