عقد رئيس المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرين، القاضي أنطونيو كاسيزي، خلال زيارته الأخيرة للبنان منذ أسبوعين اجتماعاً في فندق فينيسيا بقي بعيداً عن الإعلام، مع عدد من الحقوقيين اللبنانيين، طُرحت خلاله تساؤلات عديدة، هنا بعضها
نبيل مقدّم
أكّد القاضي أنطونيو كاسيزي خلال اجتماعه بحقوقيين في بيروت أنه عُقد اتفاق تعاون بين المحكمة الدولية ومنظمة «الإنتربول» (الشرطة الدولية) وبعض الدول التي فيها جاليات لبنانية كبرى، وأن «الاتفاقات مع الدول تأخذ الكثير من الوقت». وفي سياق الحديث، عُلم أنه عُرض نوع كهذا من الاتفاقات على عدة دول مثل فرنسا والولايات المتحدة وسوريا وإسرائيل، وأن جميع هذه الدول رفضت توقيعها، بسبب أن بعضها مثل الولايات المتحدة وإسرائيل يحتم عليها الإجابة عن قضايا تقنية معينة استقتها من أقمارها الاصطناعية، وهي لا تريد ذلك لأسباب تتعلّق بعمل أجهزة الاستخبارات فيها.
فرنسا التي يفترض أن تُعلم المدعي العام الدولي دانيال بلمار بما توصلت إليه في تحقيقاتها الخاصة في هذا الموضوع لا تريد توقيع الاتفاق الدولي مع المحكمة، خوفاً من أن تكون بعض المعلومات المتعلقة بالجريمة قد استُغلت سياسياً في عهد الرئيس جاك شيراك. أما سوريا فكانت واضحة منذ البداية بأنها تجد نفسها غير معنية بالمحكمة الدولية، وأعلنت أنها ستحاكم أي مواطن سوري يثبت تورطه في هذه الجريمة.
خلال الاجتماع بكاسيزي، طرحت كذلك تساؤلات عديدة عن عمل المحكمة وعن وضعها القانوني وعن الظروف التي تحيط بعمل فريق التحقيق التابع لمكتب المدعي العام بلمار، وعمّا إذا حقق تقدماً يسمح بالاقتراب من موعد إحالة القضية على دائرة المحاكمة بعد صدور مضبطة الاتهام؟

وحده لبنان ملزم بالمحكمة

سئل كاسيزي خلال اللقاء عن الوضع القانوني للمحكمة، وإن كانت هذه المحكمة قد أُنشئت على غرار المحاكم السابقة التي أنشأها مجلس الأمن الدولي ليوغوسلافيا السابقة ورواندا، أم أن مجلس الأمن كان دوره فقط التصديق على الاتفاقية التي كان مفترضاً أن تعقد بين لبنان والأمم المتحدة، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تعمل هذه المحكمة تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، لا الفصل السابع منه؟ أجاب كاسيزي بأنّ هذه المحكمة لها وضع خاص، حيث إن مجلس الأمن، بقرار إنشائه المحكمة، إنما تبنى نظامها كما تبنى الاتفاقية بين الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية. وشرح الفرق بين نظام لجنة التحقيق الدولية التي أنشأها مجلس الأمن والتي عملت بموجب الفصل السابع والتي تفرض تعاون الكل معها، ونظام المحكمة الذي لا يلزم نظرياً إلا لبنان، ما يضطره، بصفته رئيس المحكمة، عقد اتفاقيات تعاون ثنائية مع دول أخرى.
أثار أحد الحاضرين مسألة عدم ملاحقة المحكمة الدولية شهود الزور الذين ضلّلوا التحقيق ولجنة التحقيق الدولية لعدة سنوات، فكرّر كاسيزي أن نظام المحكمة لا يسمح له بذلك وهو ملتزم بالأطر القانونية التي يحددها له هذا النظام. هذا التفسير بدا عليه الاعوجاج، وفجّر نقاشاً حاداً بين رئيس المحكمة الدولية وعدد من الحضور الذين رفضوا موقفه وعدّوه مخلّاً بقواعد العدالة.

قانون الصفقة

بعض المعلومات المتعلقة بالجريمة استُغلت سياسياً في عهد الرئيس جاك شيراك
ما هي الأبعاد التي تقف وراء إنشاء هذه المحكمة حسب القانون الأنغلوسكسوني، لا حسب القانون الفرنسي؟ يقول أحد الحقوقيين الذين شاركوا في الاجتماع بكاسيزي إن المجتمعين اتفقوا على أن القانون الأنغلوسكسوني، بغض النظر عن كل المعايير القانونية التي يحملها، هو قانون يتلاءم مع ما يمكن تسميته قانون الصفقة، «أي إنك في هذا القانون قادر على المفاوضة على العقوبة القانونية، وهذه المفاوضة في نهاية الأمر قد تصبّ بطريقة أو أخرى في خانة السياسة».
وطرح على كاسيزي خلال اللقاء به سؤال لم يجب عنه، هو: هل تسرّع الأمين العام للأمم المتحدة بإعلان البدء في أعمال هذه المحكمة، فيما لا تقدم محرزاً أو معلناً في عمل لجنة التحقيق الدولية يخالف نص نظام المحكمة؟ وهل يمكن القول إنه لا محكمة خاصة بلبنان وجودياً حتى الآن، وخاصة أنّ اتفاقية المحكمة نصت على أن المحكمة تباشر عملها في ضوء التقدم المحرز من لجنة التحقيق الدولية؟

فيض من الملاحظات القانونية

قال عضو المجلس الدستوري السابق الدكتور سليم جريصاتي إنه الآن، وقد أصبحت المحكمة مفروضة على لبنان من مجلس الأمن الدولي، فلا بد من إبداء بعض الملاحظات على نظامها وعملها. فهذه المحكمة، بحسب جريصاتي، تحمل في طيّاتها من حيث مصادرها الأنغلوسكسونية «نقاط وهن كثيرة جداً»، وهي بسبب تلك النقاط غير قادرة على إحقاق العدالة «وهذه الملاحظات تصبّ في خانة التحصين، لا في خانة العرقلة، وهم أخذوا ببعض هذه الملاحظات عندما عدّلوا في قواعد الإثبات المسماة القواعد الإجرائية». وعدد جريصاتي بعض الملاحظات، قائلاً إنه أول ما يلفت النظر في هذه المحكمة أنها محكمة ذات طابع دولي وليست محكمة دولية، وأن هذه المحكمة فريدة من نوعها في العالم، حيث أولاً إنها المحكمة الدولية الوحيدة في العالم التي فرضها مجلس الأمن بقرار يقضي بإنفاذ اتفاق مع دولة ذات سيادة لم تقرّه وفقاً لأحكام دستورها. وأكثر من ذلك جرى الالتفاف على هذه الأحكام الدستورية مثل صلاحية الرئيس وفقاً للمادة الـ52 وصلاحية مجلس النواب بالتصديق على تلك المعاهدات. ثانياً، إنها المحكمة الأولى في العالم التي لم تُنشأ للنظر في انتهاكات فاضحة للقانون الإنساني الدولي، بل للنظر في جريمة دافعها سياسي وموصوفة من مجلس الأمن بالعمل الإرهابي. صحيح أن هذه الجريمة فيها كل دوافع الإرهاب، وفيها كل مكامن الهلاك للوطن، لكن من حيث القانون حتى الآن ليس هناك توافق دولي على مفهوم الإرهاب، حتى إنه لا عقوبة دولية على العمل الإرهابي. ثالثاً، هي المحكمة الدولية الوحيدة في العالم التي أُنشئت للنظر في جرائم يحددها قانون العقوبات المحلي ويعاقب عليها، أي القانون اللبناني، بينما المحاكم السابقة التي أنشأها مجلس الأمن تمتد ولايتها على جرائم تتجاوز القوانين المحلية. رابعاً، هذه المحكمة هي الوحيدة في العالم التي أنشأها مجلس الأمن للنظر في جريمة وُصفت بالإرهابية، وهذه الجريمة تخضع لولاية سلطة محلية قائمة وعاملة، بينما في كل الحالات السابقة التي أُنشئت فيها هذه المحاكم، كانت السلطات القائمة قد اندثرت وانحلّت مثل يوغوسلافيا وسيراليون وكمبوديا.


رئيس المحكمة يُزار ولا يزور

اعترض أحد الحقوقيين اللبنانيين البارزين أمام القاضي الإيطالي أنطونيو كاسيزي على حضوره أخيراً من مقرّ المحكمة الدولية الخاصة في لاهاي إلى بيروت. كذلك اعترض على كل الاجتماعات التي عقدها كاسيزي ونائبه القاضي رالف رياشي، المعلنة وغير المعلنة منها، لأنه بحسب قوله: القاضي «يزُار ولا يزور، وعليه أن يظل في مقر المحكمة جاهداً لتفعيل عملها ومنتظراً وصول مضبطة الاتهام إليه لكي يباشر ترؤّس الجلسات أو تكليف أحد القضاة بذلك».
كذلك شرح الأستاذ في القانون الدولي أن عقد اتفاقات تعاون مع أي بلد من البلدان من اختصاص المكتب القانوني للأمم المتحدة أو رئيس قلم المحكمة (وهو الموظف الأممي الوحيد بين موظفي المحكمة الدولية)، بحسب قواعد الإجراءات والأدلة. ويمكن كذلك أن يقوم الأمين العام للأمم المتحدة، أو من يكلّفه، بمهمة توقيع الاتفاقات الدولية، غير أن تلك المهمة ليست من مهمات كاسيزي كرئيس محكمة، إذ إن توقيع الاتفاقات يستوجب تفاوضاً، والقاضي العادل لا يفاوض بل يحكم.