مصطفي بسيوني
رغم هجرة الأدمغة جماعيّاً، بقي بعضهم يتشبّث بجعل العلم قيمة اجتماعية وإنسانية في «أم الدنيا». في معملها/ مختبرها في كلية العلوم في «جامعة القاهرة»، تبدو رشيقة الريدي كتلة من الطاقة. ترى عالمة الأحياء هذه تجلس وسط طلابها والمعيدين الشباب الذين تحلّقوا حولها لطلب المشورة وطرح الأسئلة. أسئلتهم هذه هي أولويتها المطلقة.
رغم الطابع الجدي والدقيق لعملها، فإن المرح والمودة يلازمانها دائماً. تختار أستاذة علم الأحياء كلماتها بدقّة علميّة حين تتحدث عن عدم تقدير مصر والدول العربية للعلم والعلماء. «الشعب المصري والعرب عموماً يقدّسون العلم ويبجلون العلماء... ما نعانيه هو تقصير الأنظمة»، تقول الريدي.
خطوات متسارعة قطعتها هذه العالمة منذ تخرجها من كلية العلوم في «جامعة القاهرة» عام 1964. نالت الدكتوراه في علم المناعة عام 1975 من «معهد الوراثة الجزيئية» في تشيكوسلوفاكيا، ثم حظيت بدرجة الأستاذية عام 1986. بعد كل هذا، صقلت مسيرتها بجوائز عدّة منها «جائزة الدولة للتفوق العلمي» (2002)، و«جائزة الجامعة التقديرية» في العام نفسه، وصولاً إلى جائزة «لوريال» التي تمنحها «الأونيسكو»، وذلك عن فئة «أفضل عالمة في القارة الأفريقية» لعام 2009... رغم كل إنجازاتها العلميّة، تجد لسان حالها يقول: «ميلاد ابني حاتم عام 1979 كان الحدث الأهم في حياتي».
تمثّل الريدي نموذجاً مختلفاً عن العالِم المنعزل في برجه العاجي. «المعمل جزء من المجتمع»، تقول. «على سبيل المثال، أظهرت لي الأبحاث العلمية الخطر الذي يتهدد مصر ودول حوض النيل من البلهارسيا. هناك ضغوط قوية تمنع إيجاد لقاح مضاد للبلهارسيا، لكن تخيّل العكس. لو استطاعت المعامل المصرية إنتاج هذا اللقاح وتقديمه إلى دول حوض النيل، ألن يؤثر ذلك تأثيراً إيجابيّاً في علاقتنا المأزومة بها؟».
كرّست الريدي جزءاً كبيراً من أبحاثها لمقاومة البلهارسيا. في بداية نشاطها العلمي، خصصت جهدها لعلم مناعة الزواحف، «أستطيع القول أنْ لا أحد في العالم تفوّق علينا في هذا المجال حتى الآن». لكنّها ركزت اهتمامها منذ عام 1989 على البلهارسيا، وهي مستمرّة في هذا الطريق لغاية اليوم. «يمثّل تمويل البحث عاملاً أساسيّاً في استكماله، وهذا ما مكّنني من الانطلاق عام 1989. قلت حينها إنّ الملايين في مصر ودول أفريقيا يهلكون بسبب البلهارسيا، وهذه الأبحاث قد تسهم في إنقاذهم». تغيير مجالها البحثي جاء موقفاً اجتماعيّاً لعالمة تلتزم قضايا محيطها. هذا لم يأتِ من فراغ، فهي متابعة دائمة للأحداث السياسية والاجتماعية في مصر والمنطقة والعالم، كما أن الأدب والفن والموسيقى تقع ضمن اهتماماتها اليومية.
تبقى العمليّة التربويّة في رأس أولوياتها. الأستاذة في «جامعة القاهرة»، ارتبطت كطالبة بالجامعة منذ مطلع الستينيات، ولاحظت التحوّلات التي طرأت عليها. «في السنوات العشر الأخيرة، طاول الانهيار مرحلة التعليم ما قبل الجامعي. أصبح الطالب يصل إلى الصفوف الجامعيّة غير مؤهّل لمستوى مناهجها. هذه أزمة كبيرة وتضع عبئاً ثقيلاً على التعليم العالي»، تقول. لكن ما تلحظه على مستوى التعليم الجامعي يعبّر عن أزمة أكبر. «حفاظ «جامعة القاهرة» على وجودها معجزة. هذه المعجزة ما كانت لتحصل لولا استماتة حفنة من الأفراد من أجل الإبقاء على الجامعة الوطنيّة، لكن للأسف، لم تصل هذه الأخيرة إلى مرتبة متقدمة على صعيد العالم. هذا ما تطالعنا به التقويمات الدولية سنوياً، وذلك بسبب القوانين الناظمة للجامعات المصريّة.
ترى رشيقة الريدي أنّ ما يحدث على صعيد التعليم العالي كارثة محققة، وخصوصاً أمام طفرة الجامعات الخاصة. «هذه ليست جامعات، بل مدارس عليا في أفضل الأحوال. الجامعة ليست للتدريس فقط، بل هي مؤسسة علمية مهمتها تطوير الأبحاث والعلوم، وبناء كفاءات علمية وفنية. ومن مهماتها أيضاً توظيف هذه الطاقات للنهوض بمشروع تنموي. لا تقتصر مهمة الجامعات على منح شهادات لمن يتمتعون بمستوى اجتماعي عال، كي يحصلوا بفضلها على فرص عمل متميزة».
ما تشكو منه الريدي هو ضعف الإمكانات، وعدم الاهتمام بالعلماء، وتدني مستوى المؤسسات التعليمية. مع ذلك، لم تفكّر في الهجرة إلى الخارج كغيرها من العلماء المهاجرين. «بقائي ليس بطولة. لقد بقيت حيث أريد. اتخذت خياري بكل هدوء ومن دون مزايدة». حصولها على جائزة «الأونيسكو» مثّل حدثاً وطنياً مهماً، لكنها نظرت إليه نظرة مختلفة. «لقد فرحت طبعاً بالجائزة، إلّا أنني رأيتها قبل أي شيء آخر فرصة لكشف أزمة المؤسسة العلمية في مصر. لكن للأسف لم تلقَ رغبتي الصدى المطلوب. أنا أعرف أن هناك مشاريع وخططاً كثيرة أعدها أساتذة أجلّاء ومخلصون، وأعرف أن هناك كفاءات نادرة قادرة على التطوير وإنقاذ مصر، لكن للأسف لا تجد هذه الإمكانات من يرعاها ويحتضنها ويؤطّرها».
حين انطلقت رشيقة الريدي في مسيرتها العلمية في مطلع الستينيات كانت الظروف السياسية والاجتماعية مختلفة، وسط مشروع قومي واضح. خلال مسيرتها العلمية، تبدّلت الظروف مرات عدة، وتبدلت معها أوضاع العلم والتعليم... لكنها هي لم تتبدّل. «مستقبل العلم في مصر يرتبط بمستقبل كل شيء آخر. لن ينقذ أحد العلم والتعليم من دون النظر بجدية إلى قضايا رئيسية أخرى. لن نتمكن من بناء مؤسسة علمية جادة من دون ديموقراطية. لن نتمكن من وقف نزيف الأدمغة إلا بمشروع يستوعبها». تنتهي من شرحها البسيط من دون أن تغادر ابتسامة المودة وجهها. تفتح لمن يحدثها آفاقاً أخرى ومدارك لم يفقهها من قبل. أما هي، فلا تفارق معملها. هناك تقضي الجانب الأكبر من حياتها. بمعطفها الأبيض ونظارتها السميكة، تتطلع هذه المرأة إلى المستقبل بنظرة العلماء الثاقبة.


5 تواريخ

أوائل الأربعينيات
الولادة في القاهرة

1964
تخرجت من كلية العلوم في «جامعة القاهرة»

1975
نالت دكتوراه في علم المناعة من تشيكوسلوفاكيا

1989
أطلقت أبحاثها في مرض البلهارسيا

2009
نالت جائزة «لوريال» من منظمة «الأونيسكو» كـ«أفضل عالمة في القارة الأفريقية»