لم يعد موتاً عادياً ذاك الذي يحصل الآن في منازل أهالي ضحايا الطائرة الإثيوبية. فمنذ بضعة أيام، بات الحديث عن «مراسم دفنٍ عدّة لشخصٍ واحد» وارداً، وإن كان مؤلماً. هو، تماماً، موت على دفعات كان حتى وقت قريب مخيفاً، لكنه الآن هنا
راجانا حمية ــ محمد محسن
الموت على دفعات. حصل ذلك أول من أمس عندما دفنت إحدى العائلات فقيدها، ليتبيّن أمس أنه جرى التعرف إلى «جزءٍ» منه في مختبرات الأدلّة الجنائية من خلال فحوص الحمض النووي. هذه الحقيقة تضعنا أمام سؤال شائك: كيف سيتعاطى أهالي الضحايا مع الموضوع؟ هل سينتظرون اكتمال فحوص الحمض النووي، أم أنهم سيتسلّمون «الأجزاء» التي تعلنها وزارة الصحّة؟ الغالبية تميل للإجابة الثانية. فهؤلاء لم يعد بوسعهم الانتظار، ولو كانت مراسم العزاء ستجري على دفعات.
«قرار نابع من الحرقة»، يقول مصدر في المختبرات الجنائية، لكنه، رغم ذلك، يعيد عرض «عرضه» المتعلّق بـ«إمكان الاتفاق بين إدارة المستشفى ووزارة الصحة والأدلة الجنائية على استكمال تحليل كل الأجزاء الموجودة، التي ستُنتشل، ومن ثم تجميعها وإعطائها للأهالي». وهذا يعني «الامتناع عن التصريح وذكر أسماء من أجريت لهم فحوص الحمض النووي». أما السبب؟ فلأنه «لم يعد هناك جثث، بل أجزاء». وفي هذا الإطار، يشير المصدر إلى أنه «لا يجوز أن نعطي جزءاً، فيما أجزاء أخرى للجسد نفسه قد تكون موجودة في العيّنات التي يفوق عددها 500 عينة». ويقسّم العينات ما بين «300 تعود إلى الأيام ما قبل أول من أمس، التي لم ننتهِ من إجراء فحوصها وإصدار نتائجها، و160 عيّنة انتهينا من فرزها فجر أمس، بعدما تسلّمناها ليل أول من أمس، ولكن لم نبدأ بها بعد». كل هذا، عدا «الأجزاء التي تسلّم ليلاً يوميّاً». هنا، في المختبرات الجنائية، ثمة ما هو أصعب «من ضغط العمل»، فهناك أيضاً «الصعوبة في تحليل العينات، ويعود ذلك إلى صعوبة التأكّد من نتيجة الفحص من المرة الأولى»، و«أن معظم أجزاء اللحم تحلّلت ولم تعد صالحة لأخذ عيّنات، ما سيضطرنا إلى اللجوء إلى العضل والعظم، الذي تحتاج نتائجه إلى خمسة أيام». تضاف إلى ذلك كلّه «عشوائية» نقل الأجزاء إلى المختبرات، إذ يلفت إلى «أن بعض الأجزاء تأتي مخلوطة، ما يؤدي إلى الخلط في النتيجة بين جثتين، كما أن استعمال الأداة نفسها لالتقاط جزءين مختلفين قد يؤثر أيضاً في النتيجة». ما يستدعي إجراء الفحص أكثر من مرّة.
لكن، ثمة صعوبة أخرى تتعلق بالحصول على المعلومات الدقيقة عن عدد المتعرَّف إليهم بالفحوص. فثمة قرار بالتكتّم واتّباع آلية جديدة «تبدأ من الأدلة الجنائية التي تُبلغ إدارة مستشفى بيروت الحكومي نتيجة الفحوص، التي تُعلِم بدورها وزير الصحة، على أن يُبلغها للأهالي»، يقول مدير المستشفى، د. وسيم الوزان. ويلفت إلى أن «العائلات تقرر ما إذا كانت ستذيع أو لا، لأن إعلان الوفاة من حقها وحدها». بعد الآلية الجديدة، جرى التعرف خلال اليومين الماضيين على جثث تنال فردون وأسعد الفغالي وعفيف كرشت وهيفا وزني وخليل إبراهيم صالح، إضافةً إلى محمد بزون، الذي جرى التعرف إليه صباح أمس. وقالت عائلتا الأخيرين إنه سيُسلَّم جثماناهما اليوم عند الثامنة صباحاً. وكانت عائلة محمد مدني قد تسلّمت جثته صباح أمس. أمّا بالنسبة إلى أعداد اللبنانيين الذين جرى التعرف إليهم حتّى الآن رسميّاً، فهي بحسب الوزان «20 لبنانياً منذ اليوم الأول للحادث حتى عصر أمس». وبالنسبة إلى الإثيوبيّين، فقد جرى «التأكّد من ثمانية بين جثث وأشلاء». من جهة أخرى، اتخذت الحكومة أمس قراراً مبدئياً «بإقامة مراسم تشييع وطني لتأبين ضحايا الكارثة».
وفي دير قانون رأس العين في صور (آمال خليل) امتزج الحزن بالغضب خلال تشييع محمد مدني. غضب جعل مراسم التشييع سريعة وضيقة، إذ لم يمكث النعش المحكم الإغلاق في منزل العائلة أكثر من دقائق معدودة. فالنعش الذي زُنّر بالعلم اللبناني أصرّت بعض النسوة على تحريكه ومحاولة فتحه، ما أجبر عناصر الدفاع المدني على سحبه، ونقله مباشرةً إلى مقبرة البلدة لمواراته في الثرى. وقد أثارت سرعة التشييع استغراب بعض الأهالي، الذين فوجئ بعضهم بقرار العائلة دفنه بدلاً من انتظار الانتهاء من أعمال البحث عن الأشلاء، لعله يُعثّر على أجزاء أخرى كما أوصى المفتي عبد الأمير قبلان. أمّا مدينة صور، فقد نُكبت باجتماع بعض وسائل الإعلام على الخلط بين اسمي ابنة صور هيفاء الفران والضحية هيفاء وزنة. فبعدما تقاطرت عائلة الفران إلى المستشفى، وانتظرت طوال الليل، تبيّن لاحقاً أن خطأً غير مقصود قد ارتُكب، والأشلاء تعود إلى وزنة لا إلى فران، فاقتضى الاعتذار من أهل الأخيرة.
ويشهد اليوم عند الثالثة من بعد الظهر مراسم تشييع الراحل، أسعد فغالي، في كنيسة مار أنطونيوس الكبير في وادي شحرور، كذلك تشيّع العباسية الضحايا الثلاث: تنال فردون ومحمد البزوني وخليل صالح، من دون ابن البلدة الضحية عباس حويلي، الذي لم ينادَ على اسمه بعد في المستشفى.
في الشارع الذي تقع فيه القنصلية الإثيوبية (بدارو)، يغيب أيّ صخب مفترَض، أمام قنصلية دولة تعرّض رعاياها لكارثة، لكنّ هذا الهدوء، يتبدّد كلّما تجاوزت درجةً من السلّم المؤدي إلى القنصلية. في الداخل، قبل مقابلة القنصل أسامينا بونسا، نتعرف إلى استعدادات السفارة لتسلّم جثث 5 إثيوبيّين، هم 3 مضيفات ورجل أمن ومسافرة شابة. على مكتب السكرتيرة، تنتظر 5 أعلام إثيوبية من الحجم الكبير، أن تُلَفّ غداً على 5 نعوش دخلت أمس إلى مستشفى بيروت الحكومي، برفقة اللجنة الإثيوبية، التي أنهت إجراءات الكشف وتأكيد الهويّة.

يجري اليوم تسليم 5 جثث مكتملة للضحايا الأثيوبيين
قبل أن يجيب عن الأسئلة، يبدي بونسا حزنه «لمأساتنا المشتركة». يقول: «عملي إنسانيّ بحت، لمتابعة أمور الضحايا، أما الأمور الأخرى، فعند لجنة التحقيق». رغم رفضه الحديث عن التحقيقات، يرفع بونسا من شأن الطيران الإثيوبي «هو من بين أفضل الخطوط الجوية الأفريقية، وفي جعبته خبرة 60 عاماً من الطيران فوق معظم دول العالم». من جديد، يتجنّب بونسا إعطاء أيّ معلومة، مشيراً إلى أنه ربط الكارثة في يومها الأول بسوء الأحوال الجوية «لكن قبل أن ينتهي التحقيق، وتصدر المعلومات الرسمية لا يحقّ لنا قول أي شيء أو نفيه. ما قلته عن الجوّ كان تحليلاً شخصياً».
يؤكّد بونسا أنه سيجري اليوم عند الواحدة ظهراً، تسليم 5 جثث مكتملة لضحايا إثيوبيّين، من برّادات المستشفى. بعد ذلك، ستنقلهم سيارات الجيش، إلى المطار. هناك، ستنتظر الأجساد قرابة 13 ساعة قبل أن تنطلق رحلتها الأخيرة، فجر يوم الأحد، على متن طائرة للخطوط الإثيوبية أيضاً. خمس ضحايا، سيتشابهون مع خمسة أضلاع تكوّن نجمة العلم الإثيوبي. على الأرجح، هم نجوم الغد في إثيوبيا. ففي مطار أديس أبابا، سيحضر وفد رسمي رفيع المستوى لاستقبال النعوش. تأبين رسمي، قبل أن يتسلّم ذوو الضحايا أجساد أبنائهم، لتُنقل وتدفن كلّ في قرية من إليه.