أنسي الحاج
طفلة العصور
مرّ شريط وثائقي على قناة فرنسيّة عن مارلين مونرو. توهُّجٌ ملؤه الفراغ وفراغ ملؤه الضياع. وحين لا ضياع، هدى النامفومانيا والمهدّئ والمنوّم. طيّات من الأسى والدموع والوحشة، الوحشة، الوحشة. صحراءٌ من الرجال وأوقيانوس من الظلال. فاتنةٌ ظنَّها الناس مصّاصة دماء وهي فريسة. فريسة الفرسان واللاشيء. حفنةُ جمالٍ ظاهرها حرير ولحم وفحواها سذاجة ورعب.
أنا من الذين لم يحبّوا تمثيلها ولا رأوا فيها ما صُمّم لها من دور الرمز الجنسي. أحسستها طفلة معذَّبة تفتعل المرح ليَقْبلها الكبار. وبَدَل الجاذب الجنسي الأسطوري وجدتُ جاذب اليتم والخوف والتيه وخدعة الإغراء. جعلت منها هوليوود ممثّلة المجون الأنثوي الطائش وكلّ لحظة من حياتها كانت تستحقّ الشفقة.
لعلّها مثَّلت للسينما رغماً عنها، ثم أصبح كلّ شيءٍ إدماناً. كانت تعترف بأنّها تفضّل التقاط الصور لها على تمثيل الأفلام، فالصورة تعفي من الكلام، وهي تتعثّر بالكلام، كأنّه كذبٌ أو استعارة. الصورة الصامتة وجودٌ بلا فحص، حضورٌ في غياب، ظهورٌ مَحميّ، إثارةٌ بلا بَعْثَرَة، فستانٌ جذّاب ولا شيء تحته: الزيّ الأمثل.
امرأةٌ مُهداةٌ لم يستطع رجلٌ أن يمتلكها ليريحها من حريّتها. جوعٌ ليس أنّه لم يعرف الارتواء بل هو قبلاً لم يعرف حدوده: جوعُ الفجوةِ المطلقة، الساعية إلى مستحيل، المقدَّمة كتفّاحةٍ تعود وتنبت فور أكْلها، لأنّ شكلها تفّاحة ومادتها هواء. هواءٌ رائع شائع في العدم، العدم الذي هو صحراء هؤلاء الناس الذين لا يرقون، لا فرادى ولا جماعات، إلى صعيد القدرة أو الرغبة في ملء فجوةٍ نفسيّة واحدة، فجوة وحشة واحدة، فجوة روحٍ منهارة في جسدٍ متلألئ.


■ ■ ■


عَبَرت الشاشة كما عَبَرت الحياة: عموميّاتها تفترس خصوصيّاتها وخصوصيّاتها تفترس عموميّاتها، وجميعها ينهشها غولُ الصحافة ووحش الجمهور. وهبت جسدها كلَّ راغبٍ ولم تَسْبر إلاّ في سراب. أعطاها الجمال رداءه الخالد وحَرَمَتْها الحياةُ السلام. انهمرت على دمها سيول المهدّئات ولم تَحْظَ بقطرةِ راحة. عشيقة المخيّلات بقيتْ طفلة وحيدة ترتجف من البَرْد.
وكما رَفَّهَتْ، أَثْقلتْ. ليس هناك أشدّ وطأةً من حاملِ فراغه. كلّ جالسٍ قبالته يوبّخه ضميره. ولا يُقَلْ إن للآخرين أيضاً مشكلةً مع الفراغ، فالفراغ لا يصبح مشكلة كيانيّة، مشكلة حياة أو موت، إلاّ لذوي المشاعر المسنونة، وكلّما ازداد هربهم من الفراغ ازداد تطويقه لهم. ولا يُقَل إن الفراغَ هو فيهم وليس في الوجود، فهو فيهم لأنه امتداد للوجود، وكلّما تمادى واديه تعمّقاً فيهم تجلّى البرهان أكثر فأكثر على كون الوجود، إن لم نخترعه بأوهامنا وأحلامنا، يتركنا نتخبّط في الهاوية ونتدحرج من كابوس إلى كابوس.

■ ■ ■



نورما جين، اسمها قبل القناع، ابنة العلاقة العابرة لأبٍ لم تعرفه وأمٍ معتلّة الأعصاب انتهت في مصحّ للمجانين، تَعاقب على تربيتها العديد من أهل التبنّي ولم تجد في أحدٍ منهم حناناً تصبو إليه، حتّى عُهد بها، في التاسعة من عمرها، إلى ميتم. ولمّا شبّت احترفت مهنة الموديل، إلى دورٍ أو اثنين في فيلمين ثانويين قبل أن تبدأ وثباتها في عالم الشهرة. ومن زوج إلى زوج ومن علاقة إلى علاقة حتى وصلت إلى ذروة العلاقة مع الأخوين كينيدي وإلى ذروة أدوارها في «المهزومين» إلى جانب كلارك غيبل ومونتغومري كليفت، أَمّا ذروة زيجاتها فكانت من الكاتب آرثر ميللر، وكان اقترانها به نوعاً من اللجوء إلى وجود معنوي تأمل منه أن ينشر حولها الأمان وفي نفسها الاستقرار الذي لم تذُق طعمه. ولكنها كانت كمَن يلجأ من طوفان إلى صحراء. ولم تلبث أن عاشت مغامرة مع الفنّان الفرنسي إيف مونتان، لمناسبة فيلم مثّلته وإيّاه، وكانت تلك هي الضربة القاضية على زواجها.
وظلّت تغوص في ليلها حتى ما قيل إنه انتحار بالجرعة الزائدة من المنوّم، وما قيل إنه قَتْل لأسباب سياسيّة. إلهةٌ بيضاء حمراء قضت طحناً بين هوليوود الخادعة المتوحّشة وسراب العلاقات الأكثر توحُّشاً. بَنَتْ مجداً على العذاب، وتلك النظرة المدهوشة في عينيها ظلّت مدهوشة، ممتزجة بيأسٍ مطّرد، حتى النهاية.

■ ■ ■


في حوارٍ بينه وبين الجنرال ديغول يسأل الرئيس وزيره: «لماذا يبدو الجمال النسائي قناعاً؟ أعطيك مثلاً على ذلك، المنحوتات الإغريقيّة واللوحات الإيطاليّة والسينما...»، فيجيبه مارلو: «إنه الماكياج (...) الفنّانون يخترعون الحلم والنساء يجسّدنه».
عزيزي الأستاذ مارلو، لعلّ الماكياج يأتي فوق القناع وليس هو ما يصنع القناع. القناع، القناع الذي لا صنْعة فيه ولا حيلة حياله، القناع هو الوجه نفسه. القناع هو روح المرأة. إنه هو الفرق بينها وبين الرجل وبينها وبين جميع كائنات الطبيعة. للرجل قناع، بلى، لكنّه مصنوعٌ من النفوذ أو الوجاهة، السلطة أو الإجرام، الرياء أو الذكاء، البسالة أو الادّعاء. قناع المرأة ابن طبيعتها، وقد عزّزه نداءُ ملايين السنين، روحٌ صادرٌ من أعمق أعماق وجودها، وجودها السابق للرجل، والمختلف كليّاً، في حلمه وفي دعوته، عن مشروع الرجل. عزيزي الأستاذ مارلو، قناعُ المرأةِ الذي يستحيل علينا انتزاعه، ليس اختراع الفنّانين، بل العكس، إبداع الفنّانين يستوحي هذا القناع ويستلهم إشعاعات سحره اللانهائيّة. هم الفنّانون، وأوّلهم الرسّامون والشعراء، الذين أدركوا بحدسهم بعض ما يقوله وجه المرأة، ولامسوا بمخيّلاتهم بل بغرائز أرواحهم بعض ما ترسلهم إليه أفياء هذا الوجه وأنواره وهمساته ومداعباته ولغاته ولهجاته. إنّها المرأةُ التي عكستْ صورتها في خيال الفنّانين فظنّوا عند التعبير عنها ومن وحيها، أو ظنّ سواهم، أنّهم هم الذين يخلقونها من رؤوسهم.
في الأولمب، مقرّ الآلهة، لم تُعطَ أُلوهَةُ الجمالِ لذَكَر بل لأنثى. لم يُعطَ الرجل إلاّ التخويف.
وليس صحيحاً أيُّ زعمٍ عن آلهةِ جمالٍ شرّيرة. كلّها أساطير اخترعها الرجال. وهذه روحكِ تَشْهد، أيّتها الإلهة الشهيدة مارلين، يا طفلةَ العصور.



أيّوبة البحث

الثائرةُ الرصينة، أيّوبة البحث، الحقّاويّة العميقة، المحلّلة المُسْتَخلِصة، الكشّافة السبّاقة... يكادُ لا ينتهي تعداد الصفات التي تتميّز بها خالدة سعيد.
كتابها الأخير «في البدء كان المثنّى» (دار الساقي) يضيف إلى سجلّها باباً جديداً هو مزيجٌ من السوسيولوجي والأدبي، على محور تحرّر المرأة كجزءٍ أساسيّ من مشروع تحرير الإنسان. ومن هنا تخصيصها دراسةً مسهبة بقاسم أمين الذي «لم يكن داعيةً لتحرير المرأة إلاّ من حيث هو داعيةٌ لتحرير الإنسان». تنفصل خالدة سعيد انفصالاً ذا دلالات جوهريّة عن النسويّات المتعصّبات للأنثى كحزبٍ ضد حزب الذَكَر وترفض شعار «الأنثى هي الأصل» لأنه «يقابل الخطأ بخطأ آخر (...) أهديتُ الكتاب إلى أبي لأنه لم يفرّق بيننا في عائلة ضمّت ذكوراً وإناثاً».
يبحث الكتاب في جهود العديد من مناضلات حقوق المرأة ويَتتوَّج بفصل «الإبداع كفعل ولادة»، وبرهان المؤلفة أن الإبداع «يفلت من فعل الزمن والموت وينتقم من استحالة الخلود». ولا مبالغة في القول إن كتابة الباحثة هي في ذاتها إعادةُ خلقٍ لموضوعاتها، وليس هذا بجديد على تاريخها، فقد أطلّت به مذ أطلّت على عالم النقد الأدبي في أواخر الخمسينات عبر مجلة «شعر»، وكانت كلّ دراسة لها تتحوّل إلى حدث وتتثبّت كمرجع لا محيد عنه.
أعترف بأنّي، في الغالب، أستمتعُ بقراءةِ النقد أكثر ممّا أستمتع بقراءة الشعر. عندما يكون في سَويّة خالدة سعيد أو جبرا إبراهيم جبرا أو أدونيس أو روز غريّب أو عباس بيضون وبول شاوول وشوقي بزيع وعبده وازن وسواهم ممّن لا تحضرني الآن أسماؤهم، فضلاً عن نخبةٍ من الجامعيين الغائبين عن الأضواء، يصبح إبداعاً صرفاً، وبعض الأحيان أعلى مقاماً من المادة التي يدور عليها. لا أحد ينسى مثال بودلير في تناوله للعديد ممّن زالوا وزالت أعمالهم، وبقي كلام بودلير عليهم خالداً. كلامُ الرائي والرائد يَعْبر مادته المباشرة إلى المطلق.
على صعيد آخر، المبدعون أنفسهم تُهمل أحياناً مؤلفاتهم الإبداعيّة لحساب دراساتهم النقديّة. من أمثلتنا المحليّة على ذلك ميخائيل نعيمة: كثيرون يفضّلون كتابيه «جبران» و«الغربال» على باقي نتاجه.
ليس هذا بجحود ولا باستسهال، بل هو برهانٌ على نهم القارئ العربي إلى ما يحاكي فيه فضولَ العقلِ وحاجةَ التنوير، ناهيكَ بجاذبِ الحيويّة، والنقد ذروتها.
كلمة بعدُ عن «في البدء كان المثنّى»: قلّما استهواني قَلَم أو جوّ شعارهما البحث عن الحقّ أو الحقيقة، فإنّي أَتطيَّرُ منهما. لكني أستطيبهما عند صاحبة «البحث عن الجذور»، فهما هنا كالهواء للشجر. وقلّما استهوتني الرصانة، فغالباً ما تبطن الضجر والادّعاء، لكنّي أجدها ـــــ وهي كذلك ـــــ أنعم من الحرير تحت فكرِ خالدة سعيد وقلمها. تعليمٌ كهذا ـــــ وهو كذلك ـــــ نوعٌ من الموسيقى.