ضحى شمسالارتباك الذي تتخبط فيه الدولة اللبنانية التي فاجأتها الكارثة عارية من أي آلية في التعاطي المؤسساتي مع الكوارث، بدا جليّاً لأيّ متابع لتطورات فاجعة الطائرة الإثيوبية. هذا الارتباك تجلى في محطات ثلاث: الأولى، الانفجار المدوي لوزير الصحة محمد جواد خليفة أمام الصحافيين في باحة مستشفى بيروت الحكومي، الثلاثاء الماضي. الثانية، «التكريم» الذي قام به وزير الأشغال العامة والنقل غازي العريضي صباح أمس لموظفين في مطار بيروت، مستبقاً نهاية التحقيق. والمحطة الثالثة، تعدد مصادر التصريح الرسمية، وغياب أي جهة تتواصل مع الأهالي.
أما بالنسبة إلى خليفة، فما زالت أصداء «انفجاره» تتردد حتى اليوم. فالرجل الذي يتعرض ـــــ بلا شك ـــــ لضغوط كبيرة، أفلت زمام نفسه، معلناً حقائق فجّة، سمّى فيها الأشلاء بأسمائها. وفي سياق تصريحه الغاضب ارتكب خطأً آخر حين قال: «الطائرة انفجرت في الجو»، ما سبب سلسلة «انفجارات» إعلامية أولاً، دعته إلى التصويب ببيان. لكن التصحيح لم يمنع صدور بيان لشركة الخطوط الإثيوبية «لا يستبعد العمل التخريبي» ككل الاحتمالات الأخرى، في سياق «احترام الاتفاقات الدولية التي تنص على انتظار التحقيق».
الرد الإثيوبي سبّب بدوره سلسلة ردود فعل، لا نعلم إن كان في إمكاننا وضع «حركة» الوزير العريضي أمس في سياقها. فالرجل، الذي سأل الصحافيين عن المعلومات التي سيدلي بها والتحقيق لا يزال جارياً، بدأ مؤتمره بتبرئة مطار بيروت وسائر أجهزته من أي احتمال تقصير. أوحى الوزير، غير المشهور بأنه «بيحط بقلبو» طويلاً، رفضه لأي اتهام بمسؤولية المطار، وبدا أنه يقوم بذلك استناداً إلى معلومات غير مصرح له بإفشائها، لكنه متأكد من صحتها. وهو في ذلك بدا أشبه بالإثيوبيين الذين ردوا بغضب لدى رواج اتهامات لطيارهم بالمسؤولية عن الحادث.
لكن «الإخراج» العريضي، عليه ملاحظات كثيرة. أولاها أننا لا نفهم على ماذا بنى تكريمه ذاك. ولا يكفي ما قاله بأنه «بعد قراءة المعلومات الأساسية المتعلقة بهذا الجانب، الصادرة عن الصندوق الأسود الأول التي جرى تنسيقها، أصبح الكلام مبرماً»، يقصد لجهة حسن الأداء.
لذلك، فقد بدا «تكريم» العاملين تدخلاً بالتحقيق أقرب إلى ردة فعل على «شائعات تطال سمعة لبنان» التي أعلن الوزير عن ذلك المنبر أنه لا يتهاون معها. لقد بدت تبرئة وزير النقل للمطار عاطفية ووطنية بالمعنى السيئ للكلمة. ففي النهاية، ولو كان المكرمون أبرياء من أي تقصير، إلا أن الظرف لا يناسب هذا النوع من السلوك، وخصوصاً أن «التكريم» بدأ به العريضي مؤتمره قبل أن يتفوه بأي معلومة عمّا يهم أهل الضحايا: هل توقف الدولة البحث عن الجثث أم لا؟ ومتى؟
لقد أظهرت هذه الارتباكات وغيرها، وخاصة لجهة تعدد المصرّحين، خللاً بارزاً في التعاطي مع فاجعة مفتوحة منذ ليل 25 كانون الثاني الماضي. أظهرت فجوة اسمها «الناطق الرسمي» أولاً، وثغرة اسمها «لجنة للتواصل مع الأهالي». أما الأول فمفهوم عمله، وأما الثانية، التي تضم عادة خبراء نفسيين وكوارث وأطباء ومندوبين عن شركات التأمين... إلخ، فتتألف منذ اللحظة الأولى للفاجعة، وهي التي تتواصل مع الأهالي لإعلامهم بأي تفصيل، من التعرف إلى الجثث، إلى تبليغهم بتطورات التحقيق، قبل أن يسمعوا أي شيء من وسائل الإعلام. أما بالنسبة إلى مشكلة استمرار البحث عن الجثث، وقد لمّح إليها الوزير خليفة حين قال إن ما يعثر عليه لا يتعدى أجزاءً أو نتفاً صغيرة من الضحايا، فمن مهمات هذه اللجنة أن تصارح الأهالي بكتمان ولباقة شديدين بذلك لاتخاذ قرار بالأمر، فلا يستغيث الوزير خليفة بـ«المسؤولين عن إدارة البلد لاتخاذ قرارات سياسية ودينية وأهلية خلال 48 ساعة». فإذا ارتضى الأهالي بذلك، يجري تصور إخراج وطني لتأبين جماعي، ربما على شاطئ البحر حيث وقعت الطائرة، ثم إعلان يوم حداد غير مرتجل تدفن فيه بقية «الأحزان» التي لم يعثر على أشلائها، ثم تعود الحياة، التي يحتاج إليها أهل الضحايا أيضاً، إلى طبيعتها رويداً رويداً. لا يكفي أن نضع رقماً هاتفياً بتصرف الناس، ولا يكفي أن تؤلَّف وحدة دعم نفسي لا يطرق بابها أحد. ولا يكفي أن يختار هذا الوزير أو ذاك كلماته أمام الصحافيين. ليس الأمر «وان مان شو»، كما اعتاد اللبنانيون أن يفعلوا منتقلين فوراً إلى التنافس على حصرية «الشو»، بل هو عمل مؤسسات. وحين يتوزع العمل على مجموعة خبراء، وحين توضع آلية لتجميع المعلومات وفلترتها، وانتخاب ما يقال ولمن، لن يصاب وزير «شغّيل» بالإرهاق فينفجر، ولن يصاب وزير «بالوطنية» والتحقيق لا يزال في أوله. ولن يصاب الإثيوبيون بالتوتر، ما يجعلهم «لا يستبعدون أي احتمال، حتى التخريبي». المؤسسات هي الحل، لكن من أين؟ كما يقال: «العين بصيرة والأيادي... كثيرة».