تأخر سن الزواج» في لبنان لم يعد حكراً على المرأة وحدها، بل طال الرجالَ أيضاً، ويعد ذلك نتيجة طبيعية للعديد من التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على حياتهم، ولعل أهمها «تحرر المرأة»!
نادين كنعان
الجواب المضمر الأول حين تسأل الرجال العازبين، لِمَ لم تتزوجوا حتى اليوم، هو أنهم «صاغ سليم» من جهة، و«محطمو قلوب النساء» بكل ما للكلمة من معنى، وجميعهن، أي النساء، يتسابقن لنيل رضى «شيخ الشباب» ولو كان يطرق باب الكهولة أو حتى الشيخوخة. هذا أكثر ما يلفت الانتباه في كلام «الرجل العانس»، إصراره الدائم على إقناع الآخر بسلامة ميوله، من خلال التأكيد على كثرة مغامراته العاطفية وسخونة حياته الجنسية واستعراض مواصفات عشيقاته الخارقة.
وفيما تكون إجابة النساء غالباً، لدى سؤالهن عن سبب تأخر زواجهن من نوع أنهن لم يعثرن على توأم الروح أو الرجل المناسب، يعيش أغلب الذكور هذا السؤال وكأنه اتهام مباشر لهم بالعجز، أو في أبسط الأحوال بأنه غير مرغوب به في أوساط «الجنس اللطيف». وكلما حاول السائل أخذ النقاش إلى مكان آخر، يعود به إلى النقطة نفسها ليتأكد من أنه استأصل أية شكوك قد تكون بقيت في خاطره، مشدداً على أنه «كامل مكمّل». «أنا رجّال ما في شي بعيبني» يقولها أحدهم، معتبراً أنه لو أصبح في التسعين من عمره، فستبقى فرص الزواج كثيرة أمامه، ولو أراد ذلك حالاً لتمكن منه بإشارة من يده فقط! وقد لا يكون هذا الكلام بعيداً جداً عن الحقيقة. فلا شك بأن ميزان العرض والطلب بين الجنسين مختل في لبنان لعوامل شتى.
فالتغير في مكانة المرأة ودورها بفعل النضال النسوي، قادها إلى مزاحمة الرجل على معظم ميادين تفوقه، برغم مثابرتها على التقيد بالنموذج الأنثوي المرغوب به اجتماعياً. وفي ظل هذا التبدل في أحوال النساء كان لا بد لهوية الرجال الذكرية ونظرتهم لشريكاتهم ولحياتهم عموماً أن تتبدل أيضاً.
الموقع الجديد الذي احتلته المرأة نسف دور الرجل التقليدي. وبما أن الرجل لم يعد المعيل الوحيد للأسرة، وبما أن الشعور بالاستقلالية عند المرأة تطور، ولم يعدن يشبهن «نساء باب الحارة» اللواتي يتحسّر عليهن معظم الرجال اليوم، فبات باستطاعتها تأمين معظم احتياجاتهن بدونه، بما في ذلك الإنجاب، فقد انعكست هذه الاضطرابات على الرجال، فدخلوا في صراع جدي، مع أنفسهم ومع الآخرين، متلمسين ما قد تكون هويتهم الذكورية الجديدة.
هذه الأسئلة كلها لا شك تؤخر سن الزواج. أضف إلى ذلك الضائقة الاقتصادية وانتشار البطالة، المواصفات التعجيزية للمرأة التي سيرتبطون بها، وطبيعة التجارب التي يخوضها الشاب، والتي قد تفقده، نظراً لتنازعه بين تقليديته ومتطلبات العصر، الثقة بالطرف الآخر، فضلاً عن الهجرة التي ولّدت تفاوتاً ديموغرافياً خطيراً وصل إلى نسبة رجل إلى خمس نساء، كل هذه العوامل ساهمت أساساً في ارتفاع سن زواج الرجال في لبنان.
الموقع الجديد الذي احتلته المرأة نسف دور الرجل التقليدي
وربما الأهم من كل ذلك هو ذلك الإجماع بين الباحثين على أن المرأة المتحررة ولّدت خوفاً منها عند الرجل وعدم فهم: فهي برأيه تغيرت كثيراً، وأمست متطلبة جداً وأبعد ما يكون، بالطبع، عن شخصية «زوجة سي السيد»، التي يحلم بها الكثيرون سراً.
ترفع الستارة: يظهر سالم (43 عاماً ــــ محاسب) يجلس بثيابه المهندمة ونظرته الثاقبة، يراقب كل ما حوله، يحرص على الإيحاء بالثقة والهيبة. عندما يُسأل عن سبب عدم زواجه حتى الآن، يلتفت بهدوء مجيباً: «ليش بدي إتزوج؟». لقد نشأ في منزل يمثّل الرجل عموده الفقري، فهو الآمر الناهي وفلك العائلة كلها يدور حوله.
«كان بيّي القصة كلها. إمي كانت تقول إنه تاج راسها وإننا بدونه ما منسوى شي». يتنهد سالم كمن يحن إلى زمن جميل قائلاً بكل جدية: «لم يعد هناك من ترضى بمثل هذه الحياة! فمعظم النساء اللواتي فكرت بالارتباط بهن، متعلمات ومستقلات» يقول، مضيفاً بأسى أنه لا يمكنه أن يطلب من أي منهن أن تتخلى عن عملها، ليس لمقاومة منها للقيام بدور ربة المنزل فقط، بل لأنه ببساطة لا يستطيع أن يؤمّن لها مستوى معيشياً لائقاً بمفرده. يغريك سؤاله: لمَ لا تتزوج إذاً من غير متعلمة؟ يجيب فوراً: «مستحيل! المتعلمة بتفهم عليك وبتفهم عليها، كيف بدي اتواصل معها إذا جاهلة؟».
كان عماد (51 عاماً ــــ مهندس) يستمع بأناة. حالما تستدير نحوه، حتى ينتفض كمن كان ينتظر بصبر أن يدلي برأيه. «فالباشمهندس» عاش قصة حب خيالية، وبعد أربع سنوات قررت حبيبته المحامية أن تنتسب لجمعية معنية بالدفاع عن حقوق المرأة وغرقت في التحركات المطلبية، إلى أن سألته ذات مرة إذا كان مستعداً لتبادل الأدوار «التقليدية»، أي أن يبقى في المنزل وتخرج هي للعمل! يعترف بأنه أحبها كثيراً لكنه ببساطة يعتبر أن مثل هذه التضحيات من المفترض أن تقوم بها النساء. يقول وهو يلوي فمه ساخراً «مش راكبة، رجال وأضرب وأطرح، واقعد بالبيت؟ مش راكبة».
يقاطع راجي (33 عاماً ــــ صاحب مطعم) الحديث بشيء من الدهشة «أنا رجل ناجح من دون شك، لكنني ألغيت فكرة الزواج من بالي تماماً» يقول مضيفاً بثقة: «لم ولن أندم على ذلك يوماً!». هكذا لا يتردد راجي بالتأكيد أنه يفضل أن يعيش «عصفوراً طيّاراً» بدلاً من أن يكون «زوج الست»، كما أنه يجد أن فكرة تخلي النساء عن حياتهن العملية في سبيل الارتباط فقط بات صعباً جداً، في ظل الثورة التي يقدنها لتحصيل حقوقهن. «مين الرجال ومين المرا؟ يعني معليش صار بدنا مين يطالبلنا بحقوقنا!»، قرار راجي نهائي إلى أن يلمس أن شيئاً تغيّر أو على الأقل يتقبل المسألة.
أما كريم (38 عاماً ــــ أستاذ) فحكاية مختلفة، ففي ظل هذه التحولات في أدوار المرأة والرجل الاجتماعية، استهوته فكرة تبادل الأدوار، بما أن شريكته قادرة على الإنتاج بمفردها فلمَ لا يأخذ دورها في المنزل كاملاً «النساء صادرن العديد من المواقع فلمَ لا ندير دفة المنزل عنهن؟ يمكن ننجح» إلا أن الأمر لم يرق لخطيبته، فانفصلا وهو حتى الآن لم يجد من تخوض معه هذه التجربة.
لم تعد الولادة كذكور كافية للرجال ليكتسبوا صفة الرجولة وممارسة سلطتهم، فهم مجبرون على التعامل مع مجتمع يتحوّل باستمرار بتحوّل قيم الذكورة والأنوثة. طبعاً، هناك مقاومة. فالعديد من الرجال ما زالوا متمسكين بأدوارهم التقليدية، إلا أن الأغلبية أيقنت أن الذكورة لم تعد مجرد مفهوم معاكس للأنوثة. هذه التطورات العميقة ما زالت مظاهرها على السطح بمعظمها. فالتغيّر الذي شهده المجتمع كان سريعاً جداً، لم تستوعبه أجيال من الذكور لم تكن تستشعر أصلاً بأي حاجة للتغيير في مجتمعات أرسيت قيمها على قياسهم. لكنهم الآن استحقوها، كما يقال. حال الإرباك الشديد في العلاقة بين النساء والرجال تشير إلى ذلك.
فقد رسخ عبر آلاف السنين في ذهن الرجل أنه صاحب السلطة. سلطة لن يتخلى عنها بهذه السهولة، لاعتقاده أنه بذلك يكون قد تخلى عن رجولته لمصلحة المرأة. مغفلاً أن إعادة صياغة الأدوار أصبح ضرورياً، في عالم لن ينتظرهم بل عليهم اللحاق بركبه.


الأزمة بالأرقام

تجمع العديد من الإحصاءات على أن معدل سن زواج الرجال في لبنان هو 31 عاماً. وقد أجرت وزارة الشؤون الاجتماعية اللبنانية بالتعاون مع إدراة الإحصاء المركزي ومنظمة العمل الدولية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، دراسة عام 2007 بعنوان: الدراسة الوطنية للأحوال المعيشية للأسر، تضمنت في الفصل الأول منها تشريحاً للواقع الديموغرافي اللبناني، مفصلةً معدلات العزوبية لدى الذكور بحسب الفئة العمرية والمنطقة الجغرافيّة. وقد لاحظت الدراسة أن نسبة العزوبية لدى الذكور في الفئة العمرية ما بين 30 و34 عاماً تقدر بـ46.5%. وتتباين هذه النسبة بحسب المناطق الجغرافية، حيث تسجل أعلى مستوياتها في محافظة البقاع (61.3%) وأدناها في الأقضية الجنوبية الأكثر تضرراً من حرب تموز (34.1%)، وتتفاوت في باقي المحافظات مسجلة 40.1% في محافظة بيروت، و44.8% في محافظة جبل لبنان ما عدا الضاحية الجنوبية لبيروت (36.1%)، و55.7% في محافظة لبنان الشمالي، أما في الأقضية الأقل تضرراً في الجنوب فتسجل 51.8%.