بيار أبي صعب
الشابّ المرهف يتحدّث بعربيّة مكسّرة. يقف في باريس الثمانينيات، بمعطف طويل يتلاعب به الهواء، مثل مشلح دراكولا الذي سيلبسه لاحقاً كارلوس شاهين في «أطلال». قال إنّه يعدّ لفيلم عن لبنان، وأعارنا السيناريو كي نطّلع عليه. لم نتصوّر أن تلك الأوراق المطبوعة بالفرنسيّة على الدكتيلو، بين دفتي الكرتون الأحمر، شاهدة على بدايات مبدع أصبح اليوم أحد أبرز «مؤلّفي» السينما اللبنانيّة. كانت صيغة أوّليّة لما سيصبح بعد اثني عشر عاماً «أشباح بيروت» باكورته الروائيّة. شخصيّة خليل العائد إلى وطنه بعد اختفاء عشر سنوات، بَقِيَتْ في الفيلم، لكنّ السيناريو تغيّر كثيراً. بقيتْ أيضاً تلك الإشكاليّة الأساسيّة في حياة غسان سلهب: حكاية العودة الدائمة، رحلة التيه بين مدن وحيوات كثيرة، بحثاً عن موطن في «أرض مجهولة» تسكنها الثورات والحروب.
غسان المولود في السنغال مع اندلاع ثورة ١٩٥٨، كان في الثانية عشرة حين وطئت قدماه أرض لبنان، منسلخاً عن شوارع داكار. «كنت ابن شارع، وقد بقيت كذلك بعد الانتقال إلى لبنان». في الشارع سيتعلّم كل شيء تقريباً. منه سيبدأ حياته في بلد لا يعني له شيئاً. لم تكن لديه يوماً فكرة عن الوطن، أينما عاش كان ينتمي إلى «مكان آخر». «كانت أمّي في السنغال تقول إننا عرب، وكنت أسمع اسم فلسطين أكثر من لبنان». هنا وجد نفسه غريباً عن كلّ شيء، بدءاً من القسم الفرنسي في «الإنترناشونال كوليدج». في شارع حمد، حيث سكنت العائلة، على مقربة من صبرا وشاتيلا، جمعه حبّ «الفوتبول» برفاق جدد من اللاجئين الفلسطينيّين. لم يسخر هؤلاء من كلامه بالعربيّة، وكان يتقاسم معهم غربة خفيّة: «الفوتبول أخذني إلى المخيّم... كنت أريد أن أصبح بطل فوتبول، وأن أحرّر فلسطين!».
كبر المراهق في تلك السنوات الخصبة والصاخبة. «ما زلت أذكر التظاهرات. نزلت إلى الشارع حين اغتالت إسرائيل كمال ناصر... وشاركتُ في تظاهرات عمّال غندور». نسمعه بدهشة، إنّها المرّة الأولى التي يتناول فيها غسان ماضيه السياسي. تتّسع العينان أكثر حين يقول: «كنا نفكّر في أنه لا بدّ من تثوير المنطقة. ما زلت أشعر أحياناً بالأسف لكوننا قد فشلنا. كانت الأمور ستكون أفضل اليوم ربّما». غسان سلهب إذاً رجل له ماض، مثل زميله محمّد سويد. لكنّ الأخير يعود باستمرار إلى ذلك الماضي في أفلامه. أما غسّان الذي جنح إلى تجريبيّة صعبة، لا تتّسع إلّا للحالات والمناخات والتأملات، فلم يأتِ ساعته بعد.
السينما؟ لم يكن يفكّر فيها حين أعطاه أبوه ذلك الشيء في أفريقيا. حمل الكاميرا «سوبر 8» إلى لبنان، وتعلّم من خلالها كيف ينظر إلى الواقع. أنتج صوراً كثيرة، لم يفكّر في تحويلها إلى أفلام. كان ولا يزال يكتب كثيراً (قريباً ينشر كتاباً تحت عنوان «مقاطع من كتاب الغرق»)، وأخذته الكتابة إلى السينما. في الحقيقة، بيروت العصر الذهبي هي التي أخذته إلى السينما. اكتشف روائع الفنّ السابع: في سينما كليمنصو والمراكز الثقافيّة، وفي الصالات التجاريّة: «أذكر يوم حضرت «صرخات وهمسات» لبرغمان في «الكومودور». كانت الصالة تغصّ بالمشاهدين».
الشارع كان مدرسته الأولى، وكان يحلم بأن يصبح بطل فوتبول ويحرّر فلسطين
في السابعة عشرة، بعد اندلاع الحرب الأهليّة، حزم الشاب الراديكالي حقيبته ميمّماً شطر باريس التي ستشهد ولادته الحقيقية. حصل على البكالوريا بفارق علامة واحدة، وتسجّل في «العلوم الاقتصاديّة» لأنّه لم يجد مكاناً في قسم الفلسفة. اشتغل في الفنادق والمطاعم، وكان يلتهم كلّ ما يراه ويسمعه. صار مسكوناً بالسينما، إلى حدّ الانفصال عن صديقته لأنّها لم تحب فيلم تاركوفسكي «المرآة»: «لم أدرس في الـ IDHEC معهد السينما الفرنسي آنذاك. لم يأخذني أحد بيدي. صرت سينمائيّاً وحدي كمتوحّش. وككلّ العصاميين تلازمني عقدة الدخلاء والمتطفّلين. أخاف دائماً ألا أكون عند المستوى المطلوب».
كلّما سئل «ما مهنتك»، خلال رحلاته المكوكيّة بين باريس وبيروت، كان يجيب «حلاق نسائي». صوّر أفلاماً قصيرة، في انتظار ولادة «أشباح بيروت». «كانت التجربة مدهشة بالنسبة إليّ، اكتشفت إمكاناتي الخفيّة، ونفَسي الطويل في متابعة التفاصيل الصغيرة والمسائل الكبرى». نحن في أواخر التسعينيات، والسلم الأهلي وهم المرحلة بامتياز. وإذا بغسان يقوم بجردة حساب، من خلال مناضل سابق جاء يبحث عن ماضيه في الحرب. لفت النظر بلغة سينمائيّة مركّبة، تخلط بين مستويات السرد، وبين الحقيقي والمتخيّل. «ليس هناك السينما من جهة، والباقي في الجهة الأخرى. إنّها حالة كليّة تشمل كل شيء: تجاربك وثقافتك ونظرتك إلى العالم. الراديكاليّة موقف مبدئي، من الوجود».
عاش غسان بين باريس وبيروت، هنا يجمع الملاحظات، وهناك يكتب ويبحث عن إنتاج، ثم يعود مجدداً ليصوّر... هكذا حقّق بعد أربع سنوات فيلمه الروائي الثاني «أرض مجهولة» (٢٠٠٢)، بالأسلوب نفسه والهواجس نفسها، ومع الفريق الفنّي والتقني الذي تكوّن حوله وما زال يرافقه إلى اليوم. «كان التصوير ممتعاً هذه المرّة». التقط السينمائي صورة فوريّة لجيل يبحث عن مكانه في زمن الإعمار، بين مستقبل غامض وجراح لم تلتئم. ذهب الفيلم إلى «مهرجان كان» (نظرة ما)، واحتفت الأوساط السينمائيّة بالمخرج الذي بدأ ينال الاعتراف أخيراً.
قاطع باريس وعاد نهائيّاً إلى بيروت خوفاً على عفويّته من ترف الاستقرار الذي يتهدد النظر والتفكير
فيلمه الثالث «أطلال» (٢٠٠٦) الذي صوّر النزول إلى حضيض المدينة، وعكس سوداويّة المرحلة بعد اغتيال الحريري وحرب تمّوز، استقبل بشيء من الحيرة، رغم أنّه أنضج أعماله. «هنا يقولون لي أنت تصنع أفلاماً للأوروبيّين، وهناك خاب ظنّ الذين ينتظرون كليشيهات عن لبنان والمنطقة. لا يقبلون إلا بصعوبة مخرجاً من الجنوب يتعامل مع السينما من خارج الكليشيهات. المنتجون استسلموا لديكتاتوريّة السوق. يقولون لي: أنت جيّد، لكن ماذا نفعل بك يا بنيّ؟. أنا مهمّش بالنسبة إلى السينما، وبالنسبة إلى المنطقة التي أخاطبها، وبالنسبة إلى السوق الغربيّة».
لكن ما همّ؟ حقّق غسّان تحفته الصغيرة «١٩٥٨» بإمكانات قليلة. والفيلم الذي فرغ من تصويره أخيراً، يستند إلى ميزانيّة صغيرة أيضاً. «لا يجوز أن تعيش وتعمل هنا، من دون أن تأخذ بالاعتبار الواقع وإمكاناته». بطله هذه المرّة يتظاهر بالسفر، ثم ينسلّ خلسة من مطار بيروت، ليركب سيّارة مستأجرة ويمضي إلى الجبل، وينعزل هناك. لعلّه أحد أحلام غسّان السريّة، منذ قرّر القطيعة مع باريس عام ٢٠٠٢ وعاد نهائيّاً إلى بيروت: «عدت لأنني خفت على عفويّتي من ترف الاستقرار الذي يتهدّد النظر والتفكير». لعلّ بيروت، بالنسبة إلى غسّان سلهب، هي ذلك المطهر الذي تتمحور حوله «مذبحة الأبرياء»، التجهيز الذي سيقدّمه قريباً من وحي «الكوميديا الإلهيّة». بأيّة حال، لقد تخلّص هذا الفنان الراديكالي من أوهامه: «هنا تجترح الأعاجيب كي تنتج فيلماً وتعرضه، ثم... لا شيء. كأنّك لم تفعل شيئاً. تذكّرك بيروت دائماً أنّك لست شيئاً!».


5 تواريخ

1958
الولادة في داكار (السنغال)

1970
الوصول إلى بيروت التي غادرها إلى باريس بعد اندلاع الحرب الأهليّة (1975)

1998
«أشباح بيروت» الحلقة الأولى من ثلاثيّته

2002
«أرض مجهولة» («نظرة ما» في مهرجان كان). القطيعة مع باريس. وبعد أربع سنوات استكمل ثلاثيه بـ«أطلال»، وحقّق فيلمه القصير «بعد الموت» على أثر حرب تمّوز

٢٠١٠
عرض «١٩٥٨» حاليّاً في بيروت. تصوير فيلم جديد بعنوان موقّت هو «الجبل». تجهيز «مذبحة الأبرياء». تحيّة استعاديّة لأفلامه في «مهرجان لاروشيل» هذا الصيف