أنسي الحاج

«الرسولة» ويوسف ومهى
أعادتني مَسْرَحَة قصيدة «الرسولة بشعرها الطويل حتّى الينابيع» بالذاكرة إلى سؤال طالما وُجّه إليّ لدى صدورها عام 1975: المرأةُ التي تُغنّيها هنا حقيقة أم خيال؟
أروي للمناسبة حكاية بطلها يوسف الخال وزوجته الشاعرة والرسّامة مهى بيرقدار الخال. بعد أيام على ظهور «الرسولة» تلفن لي يوسف من غزير يقول إنه سيزورني غداً في «النهار» مع زوجته، وأردف: «يا خيّي في مشكلة بدّك تساعدني ت نحلّها». «ـــ خير يا أبو طارق؟» ـــ «لا، ما بتنحكى ع التلفون. بكرا المسا وعليك خير».
ودخلا عليّ في اليوم التالي، هو متجهّم وهي مبتسمة، وما كاد يجلس حتّى بدأ الكلام:
ـــ يا أخي، بتسمح تقلّها للست مهى إنّو «الرسولة» قصيدة مش نهج حياة؟
ـــ وشو الفرق يا يوسف؟
ـــ الفرق إنو الست مهى ما خلّتني نام وهيّي تقلّلي إنو هيك لازم تُعامَل المرا وإلاّ ما بيكون الرجل بيحبّها. فيك تشرحلها إنو هيدا شعر، والشعر تكثيف للحظات وتجليّات ورؤى وتجارب وأحلام، ومش إجراءات يوميّة بيطبّقوها الأزواج!؟».
طوال هذا الحوار حافظت مهى على ابتسامتها، ولما ترك لها يوسف الكلمة شرحت وجهة نظرها: «كلّ ما حاولتُ قوله هو أن المرأة، زوجةً كانت أو عشيقة، تحب أن تُحَبّ على طريقة حب المعشوقة في هذه القصيدة. وأنت يا يوسف تجيب أن ليس هناك في الواقع حب من هذا النوع، وأن هذا النوع من الحب موجود في الشعر والقصص والسينما لا غير. وأنا أسألك الآن مرة أخرى: كيف يمكن أن ينوجد حبّ كهذا في شعر شاعر إذا لم يكن قد وُجد قبلاً في
قلبه؟».
كنتُ محرَجاً. أعرف، كسواي، نظرة يوسف إلى المرأة، نظرة لا تختلف كثيراً عن «المعطى الواقعي» و«النظرة الطبيعيّة». للمرأةِ دور ووظائف، ولكن أن يبالغ الرجل في عشقها حتّى التأليه فهذه ليست من طبع يوسف. قال بصوته الأبحّ:
ـــ اشرحْ لها أن المرأة في «الرسولة» اختراعٌ خياليّ وتصعيد عاطفي، قل لها إن هذه صورة صوفيّة وجماليّة تشبه كاتبها أكثر بكثير ممّا تشبه المرأة المكتوب عنها. أرجوك وضّح لها هذا الأمر.
ـــ كيف أوضح ما ليس غامضاً لي. المرأةُ التي أوحت هذه القصيدة امرأة موجودة، والحب الذي ألهمته ليس نشوة سرابيّة ولا عمى ألوان ولا نتيجة خداع. هناك بالتأكيد مبالغات تعبيريّة في الكتاب ولكنّها طبيعية في السياق.
ـــ والعبادة!؟ والتأليه!؟
ـــ العفو يا رجل، أنا لا أكتمهما. هذا موقفي في الحبّ. ثم كيف يمكن أن يعبّر شاعرٌ عن كلّ هذا الحب لامرأةٍ إذا لم يشعر به؟ وما دام أنه شعر به فكيف نقول إنّ حبيبته خرافة؟
ـــ يعني كلّما انخدع شاعرٌ بشيء يجب أن نصدّقه؟
ـــ أجل، انخداعه إيمان، وهو، بين سائر الإيمانات، أشدّها إيحاءً بالثقة.
ـــ نترك الحقيقة لنأخذ الوهم؟
ـــ نترك واقعاً لا الحقيقة. نأخذ حلماً ونعيش فيه. نأخذ حلماً ونبدأ بتحويله حقيقة. الشعر، وأنت سيّد العارفين، ما هو إلاّ عمليّة التحويل هذه.
واحتدّ يوسف وضحكت مهى. ثم ابتسم يوسف، وتركنا لمنطقنا أنا ومهى. وظلّت عيناه تقولان إنّ ثمّة خطأً في هذه الحكاية، وحتّى لو اضطر إلى البقاء وحيداً عند رأيه، فسوف يتمسّك به.
وطبعاً لم يكن وحيداً. جميع القوّامين على النساء هم من رأيه، ومعهم كل مَن لا يزال يعتقد أنه آدم وأنّها حوّاء.

■ ■ ■


إذا استطاع إنسان أن يشعر بحبّ جارف لا يُسأل إن كان هدف هذا الحب يستحقّه. المُحبّ لا يحكم بالعدل، المحبّ يرتمي في مهبّ الشغف، مستسلماً إلى شعور بالامتنان العميق لما جعله يتلألأ بهذا النور الذي لا يستحقّه. وما دام إنسانٌ واحد قادراً على مثل هذا الحبّ فليس مهمّاً أن يكون هدف الحبّ على مستوى الحبّ نفسه. لا علاقة للهدّاف بالهدف إلاّ من خلال الشرارة التي ولّدها الهدف في نفس الهدّاف، وهذه الشرارة تغتذي بقليلٍ من شخصيّة الهدف وبكثير من فوّارة صاحبها. لكلّ معشوقة حصّة في ما يُكتب عنها، تزيد أو تنقص، والمعشوقة المثلى هي التي تقف أسطورتها في الشعر المكتوب عنها على قدم المساواة، أو ربما أرفع، من أسطورتها الواقعيّة، عندما تتماهى الهالتان وتتنافسان، ولا يعود الشعر إلاّ انعكاساً لحقيقةٍ أجمل منه.
شكراً أيّها الصديق رضوان حمزة على إحياء «الرسولة»، شكراً لجهودك الجبّارة وأنت وحدك في المغامرة، وحدك مع نخبة من الصبايا والشبان الطالعين، وشكراً لرفيق علي أحمد على تسجيله القصيدة بصوته الرحب، وشكراً لإبراهيم جابر، ولنينيا سرايا عنطوري على الكوريغرافيا. لقد عرّفتْ هذه المَسْرَحة فريقاً من جيل اليوم على كتاب لم يعد موجوداً وكاد هو وصاحبه يصبحان من ممتلكات الماضي.
الحبّ، حبّ المرأة خاصةً، يشعّ في الزمن كوجه النعمة، يربط القديم بالجديد، ويدشّن العالم في كلّ لحظة. و«أمام حياتنا المقبلة ضدّ الخوف»، كما تقول يا رضوان، لن يسعفنا إلاّ الحلم بالجمال. والمرأةُ ليست أجمل ما في الطبيعة فحسب، بل أجمل ما في الرجل.



غريزةٌ أعمق من جذورها
لولا أن الشوق غريزة، وغريزة مغرّزة في جذور التمسّك بالحياة تغريزاً أعمق من الجذور نفسها، لولا استبداد الذكريات، لولا إدمان الصدى بعد إدمان الصوت، هل كنتُ حقّاً أحبّ أحداً ويحبّني؟ أم هي مجموعة ظروف تضافرت لتجبل خيالاً محسوساً من خيال شارد، ولتنحت تمثالين من الحلم فوق كائنين من لحم ودم؟
وسرعان ما يعصف القدر بالتمثالين، القدر الذي هو الحياة عندما تتحرّك، والذي هو الحركة عندما تُباغِت الذهول، والذي هو الآخرون عندما يصبحون شهوداً لما لا ينجو بنفسه إلاّ في غياب الشهود...


المسلسل
العقصة ذاتها في البداية. الخواء الذي ينفغر فجأةً في الأحشاء. الهاوية التي لم أكن أدري بوجودها، تنفتح على عمقها. الاستغاثة ذاتها في البداية. الهلع. التحرّق المتواصل على أمل الوصول.
والأمل النصفي ذاته، لدى الوصول، باستمرار التناغم، باستمرار اللهفة. والإدمان ذاته.
... وعمليّة الاختناق نفسها التي تتفاعل حتّى النهاية: الهاوية تتحجّر، الخواء يصبح أمتع من الامتلاء، والوحدة أفضل من اللقاء، والجسد الوحيد يستعيد سيادته.
يظلّ الحبّ تقليداً للحبّ حتّى يقع المرء تحت الصاعقة فينسى الأفلام والقصص ويخرج من المسرح إلى فضاءٍ مجهول. قد تنقضي حياةٌ بكاملها دون حصول هذه الظاهرة، وغالباً ما يكون ذلك. ولكن عندما تحصل يتزلزل كيان الشخص ويُبْتَلَع في زوابع لا سابق تصوّر له حولها. حتّى الفعل الجنسيّ لا يعود، هنا، هو نفسه، رغم كونه أكثر الأمور تكراراً وتشابهاً ورتابة في عالم الحيوان.
كلّ ما تعلّمه العاشق قبلاً ينساه هنا.
يولد من جديد.
لا يولد كما يولد الطفل، بل كما ينفصل الزمن عن نفسه.



تضارُب
هَوَس الزمن، والهرب من الزمن. الشغف بمطالعة الروايات، والعجز عن كتابتها. الهوس بالصوت الجميل والموسيقى، والرعب من الضجيج. الغرق في الصحافة، والنجاة بالكتابة الأدبيّة. الانبهار بالجمال النسائي، والتوجّس من العلاقة. النهم، والقرف...
التحديث والتكرار. التجدّد والمحافظة.
... أمكنني ذلك حتّى الآن. ليس أنا مَن أمكنه ذلك بل هو ما فَرَضَ ذاته عليّ.
عندما أشرد، لا أفكّر إلاّ في ما يُضني، وعندما ألهو، لا ألهو بغير الإنفاق... العمق والرخص.
كيف ذلك!؟ شخصٌ كهذا أيُثْمر غير التيه؟
أيّ قيمةٍ لكتابةٍ تُميت عوضَ أن تُقيم من الموت، حتّى لو كانت صادقة؟



بين الدفّتين
أجملُ القصائد هي تلك التي تُطلّ على الأرحب، وفي الوقت ذاته تتّسع، كما عند كرسي الاعتراف أو في أحضان الحبيب، لأدقّ تفاصيل الذات الدفينة.



سؤال
أوحت لي حكاية دون جوان دوماً السؤال الآتي: لماذا تُحاك قصص العلاقات اللانهائيّة حول بطل ذَكَر ولا تُحاك حول امرأة؟ المعشاق لا المعشاقة؟ والأهمّ: لماذا تَقْنَع المرأة بدور الضحيّة إذا كانت القصص الدونجوانيّة صحيحة؟ وإذا لا، فلماذا لا تصبح المعشاقات نماذج أدبيّة للدراسة والتحليل والموسيقى والسينما مثلما أصبحت شخصيّتا دون جوان وكازانوفا، بَدَل أن تظلّ بضع نساء في التاريخ، كالإمبراطورة ميسالينا، رمزاً لتهتّكٍ فاجر مدان سلفاً ومسمَّرٍ في خانة الانحرافات؟