عمر نشابةعود على بدء: لاعبان يقفان وجهاً لوجه في حلبة الصراع القائم بين السياسة والعدل في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. لكن الأول، حامل راية العدل، يعتبر نفسه اليوم الرابح الخاسر، والثاني، المكلّف بصيانة المصالح السياسية للدول الكبرى، يبدو مقتنعاً، منذ حين، بأنه الخاسر الرابح.
حقق العدل انتصاراً شكلياً من خلال استجدائه دولياً عبر رفع شعار «القضاء على مرحلة الإفلات من العقاب» واستخدام عبارات فضفاضة في نصوص قرارات مجلس الأمن الدولي، مثل «أعلى المعايير الدولية في العدالة الجنائية»، ومن خلال بعض إجراءات المحكمة الدولية الخاصة. لكنه أصيب بهزيمة نكراء بفضل التوظيف السياسي لتلك الإجراءات واستمرار الافلات من العقاب، عوضاً عن عشرات الثغرات القانونية والمهنية التي تميّز بها التحقيق الدولي.
أما السياسة فحققت خسارتها من خلال تعرقل (أو عرقلة) الهجوم المركّز على الجمهورية العربية السورية وحلفائها الذي كانت قد أطلقت بعثة تقصّي «الحقائق» شرارته الأولى، وتولّى رئيس لجنة التحقيق الدولية الألماني ديتليف ميليس رأس الحربة فيه. حدث كل ذلك وسط اندفاع غير مسبوق لبعض اللبنانيين في استجداء تدخّل الدول الكبرى، ما أدى إلى إخضاع الجمهورية اللبنانية، بطلب من الرئيس فؤاد السنيورة، وإلى وصاية قضائية دولية.
لكن ما الفرق بين الرابح العدلي الخاسر والخاسر السياسي الرابح؟
في حلبة الصراع ملاكم سياسي لا مصلحة له في بروز هزيمة منافسه العدلي، بينما العكس صحيح. اذ ان قمّة التفوق السياسي تتجلّى في استعراض عضلات العدالة رغم هزيمتها، بينما قمّة تفوّق العدل تتطلّب تسليط سيفه على رقاب السياسيين وهو ما لا ولن يحصل على ما يبدو.
قد يمسك الملاكم السياسي المنتصر، يوم صدور القرار الاتهامي للمحكمة الدولية، بيد منافسه العدلي المهزوم ويرفعها عالياً. ليعلو التصفيق وتتحرّك العواطف ويشعر بعض المتحمّسين السابقين لـ«الحقيقة» بأنهم بلغوها أخيراً بفضل «المجتمع الدولي»، حتى ولو يفضّلون اليوم التكتم. ويفضّل بعضهم ألا تكون «الحقيقة» التي أعلنوها خلال مهرجانات «ثورة الأرز»، حقيقية، وخصوصاً بعد زيارة الرئيس سعد الحريري الشخصية لريف دمشق والقبلات التي طبعها على وجه الرئيس بشار الأسد.
أما الرئيس أنطونيو كاسيزي وهيئة القضاة فلا علاقة لهم بما يجري في حلبة الملاكمة، إذ إن القرار الاتهامي، لا الحكم النهائي، هو الأساس الذي تراهن عليه القوى الدولية. لذا، تقتصر وظيفة كاسيزي الذي أكّد أنه ليس على اطلاع على مجريات التحقيق، وهيئة القضاة، على التطبيل والتزمير في صفوف الجمهور لانتصار العدالة. وقد لا يدركون أن القضية أكبر منهم. فليس مسموحاً لأحد، لا رئيس المحكمة الدولية، ولا رئيس رئيسه، أن يتجرّأ على تخطّي بعض الاعتبارات خصوصاً تلك التي تخصّ أمن إسرائيل.
وليَقل كاسيزي غير ذلك.
أما زميلاه الدنيالان (قاضي الإجراءات التمهيدية دنيال فرانسين والمدعي العام الدولي دنيال بلمار) فيرفضان الاعتراف بمأزقهما. فـ«الأدلّة والإثباتات» تأتيهم من كلّ صوب بالمئات لا بل بالآلاف (القضاء اللبناني وحده أرسل عشرات صناديق المحاضر والأدلّة الحسّية) ورغم التشدّد في التدقيق لا بدّ من أن يعجز «الخبراء» عن فصل الإرهاب عن «الإرهاب».
وفي المختبرات الجنائية قد يسعى «أشطر» العلماء الغربيين الى اكتشاف تطابقاً بين حمض نووي من عين المريسة عام 2005 وحمض نووي من طريق المطار عام 1983 أو الرملة البيضاء خلال العام نفسه.
وقد يأتون بأبرز الخبراء ليعرضوا تفاصيل «اكتشافاتهم»، اتصالات بين الضاحية وبيروت ودمشق، وربما يستعيدون تسجيلات كان قد نشرها ميليس في تقريره الأول إلى مجلس الأمن.
بين الربح والخسارة، كما بين العدل والسياسة، خيط رفيع، أمام اللبنانيين خيار دفع ثمن انقطاعه الغالي أو المشي عليه على رؤوس أصابعهم بهدف الحفاظ على التوازن بين المبادئ والمصالح.
... ستتطلّب الأشهر المقبلة على ما يبدو، إتقان فنّ التوازن أكثر من أي وقت مضى. فهل يقوى رئيس الحكومة الشاب على المشي على رؤوس أصابعه أم أن الخيط الرفيع سينقطع بسبب الحمولة التي يعود بها من واشنطن؟