محمد شعير
سعيد الكفراوي طفل في السبعين. طفل أنجز أربع عشرة مجموعة قصصية، وكتاباً نثرياً في محبة الناس، ورواية لا تزال حبيسة الأدراج، وحكايات لا تنتهي عن الحب والسجن والأصدقاء!
صاحب «بيت العابرين» يَعدّ نفسه «ناسك القصة القصيرة». كل أبناء جيله وما بعد جيله خانوه، وذهبوا إلى الرواية، وتركوه في عراء هذا النوع الغامض. ظلّ وحده مخلصاً لهذا الفن الصعب، الذي يستطيع أن يعبّر عن «الجماعات المغمورة من الفلاحين والموظفين ومكسوري القلب... الذين يمشون على السكك باحثين عن عزاء. باختصار، الجماعات التي تعيش في وحشة وانعزال على حافة الوجود الإنساني». لم يكن يعنيه كثيراً أن يكتب رواية. المرة الوحيدة التي قرر فيها أن يكتب رواية، لم يصدّقه أحد. كتب «بطرس الصياد» رواية مشغولة بما هو ثقافي وديني، وبالمتغيرات الاجتماعية على الشخصية المصرية، لكنه لم يكملها، وربما لن يفعل، رغم تشجيع الأصدقاء. يضحك: «لا يعنيني أن أكون روائياً. قد أكون آخر المدافعين الجادين عن القصة حتى لا تندثر في الثقافة المصرية».
الموت هو التيمة الأساسية في أعمال صاحب «مدينة الموت الجميل». عندما كان صغيراً، أخذته جدته إلى الكُتّاب، وقالت للشيخ «موِّته حتى يتعلّم». وكان عليه كل صباح أن يقود معه فتاة كفيفة إلى الكتّاب. فجأة ماتت الفتاة، فأمر الشيخ أطفال الكتاب بأن يمشوا في جنازتها «أمام القبر رأيت عظام الموتى. في هذه اللحظة، فكّرت في سؤال الموت، وهو منبع الألم في كل ما أكتب».
يتذكر الكفراوي بدايات الوعي بالكتابة «عشقت منذ صغري قصّ الحكايات. في ليالي حصيد القمح، ما زلت أتذكر ذلك المنشد الشعبي في مولد سيدي إبراهيم الدسوقي. وجهه ما زال في مخيّلتي وأنغام ربابته تأتي بالحلم وتشعّ بالحكايات». ومع مرحلة اكتشاف القراءة، «كان كتاب «ألف ليلة وليلة» قد زلزل كياني كإنسان. اكتشفت أن الخيال البشري يمكن أن يصنع الأعاجيب».
مع ««ألف ليلة وليلة»، اكتشف أن الخيال البشري يمكن أن يصنع الأعاجيب
جاءت النقلة الثانية مع اكتشاف السينما: «كان «لص بغداد» أول فيلم شاهدته في سينما المحلة (الدلتا). فيلم يقوم على قيمة العدل والمقاومة والحب». تعدّدت محاولات الهروب من البيت لمشاهده الأفلام. عندما كان يعود متأخراً، كان يجد باب البيت مغلقاً. كان المسجد المكان الذي يأوي إليه لقضاء ليلته. كل هذه الأشياء كانت بداية تلمّس الصوت الخاص في الكتابة. في منتصف الستينيات، يلتقي الكفراوي رفاق الرحلة نصر أبو زيد، ومحمد صالح، فريد أبو سعده، جار النبي الحلو، والمنسي قنديل... أو «مجموعة المحلة». وتبدأ في «قصر الثقافة» مناقشات لا تنتهي في الأدب والفن. وبعد سنوات، يأتي إلى القصر شاب اسمه جابر عصفور، يدرس الأدب في الجامعة، ويحمل وعياً نقدياً حديثاً، وأفكاراً عن الماركسية. «جابر أخرجنا من وعينا الريفي إلى الوعي المُدُني» يقول الكفراوي.
راح عقد المجموعة ينفرط رويداً رويداً، بسبب الهجرة إلى القاهرة. المرة الأولى التي خرج فيها الكفراوي إلى القاهرة كانت لمقابلة يحيى حقّي. ذهب إليه في مجلة «المجلة» التي كان يرأس تحريرها، وطلب منه أن ينشر له قصة قصيرة. نظر حقّي إلى الفتى الذي يرتدي جلباباً بلدياً، وطاقية صوف، وملامحه القروية تعكس قلة خبرة بالمدينة، ضحك حقي وقال: «انت فاكر المجلة دي نشرة سرية؟ انت عارف مين إللي بيكتب فيها؟» رد الكفراوي: «أيوه عارف يا افندم»! طلب حقي منه أن يقرأ القصة، فقرأ، وأعادها مرةً أخرى. فقال له: «حسك جديد بالريف يا كفراوي». هكذا، نُشرت القصة في مجلة «المجلة»، «ضمير مصر الثقافي» كما يصفها الكفراوي.
خرج الكاتب الشاب سعيداً من تجربة النشر في مجلة شهيرة، صَنّف نفسه في مصافّ الأدباء الكبار. بعد هذه الواقعة بأيام، التقى في «ميدان العتبة» شاباً كان قد قرأ إحدى قصصه المنشورة. اقترب الكفراوي منه وسأله: «هل أنت جمال الغيطاني؟». أجاب الشاب: «نعم». سأله الكفراوي: «همّا الأدباء الشبان بيقعدوا فين». قال الغيطاني: «في مقهى ريش». وحدّد له ميعاداً يمر عليه ليصطحبه إلى المقهى. هناك، تعمّقت علاقة الكفراوي مع «الأستاذ» كما يسميه: «كانت ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية جامعة، أقيمت فيها مناقشات من أندر المناقشات وأعمقها في تاريخ مصر المعاصرة» يتذكر الكفراوي. ويضيف: «محفوظ هو أصدق المؤرخين في التقاط روح مصر. اعتدنا أن نعطيه كتاباتنا حين يأتي إلى المقهى. وكان يأخذ القصص مطوية ويضعها في جيبه. ويوم الجمعة التالي، يكون قد قرأ القصص وكوّن رأياً فيها».
الموت هو التيمة الأساسية في قصصه، ومن تجربته في السجن، استوحى نجيب محفوظ رواية «الكرنك»
لكن ماذا عن المعتقل؟ يجيب الكفراوي ضاحكاً: «كانت أغرب «سجنة» عاشها مواطن على أرض وادينا السعيد». في إحدى ليالي شتاء تلك الأيام، اقتادوه إلى «سجن القلعة» بعدما نشر في مجلة «سنابل»، التي كان يصدرها محمد عفيفي مطر، قصة «المهرة» التي فهمتها السلطات على أنها تتحدث عن شخصية عبد الناصر. اعتُقل في «سجن القلعة» ستة أشهر، بتهمتين على طرفي نقيض «الأولى أنني شيوعي بسبب معرفتي بالأبنودي ولطفي الخولي ومحمد سيد أحمد وإبراهيم فتحي، والثانية أنّني أنتمي إلى الإخوان المسلمين بسبب خالي وأصدقائه». وفي نهاية التحقيق، صرخ فيه المحقق: «إنت جنس ملّة أهلك إيه؟»، فأجاب: «كاتب قصة».
ستّة شهور أمضاها وراء القضبان كان خلالها رهين الحبس الانفرادي، لا يخرج إلّا للتعذيب. في حجرة التعذيب، شاهد رجلاً طيباً وساذجاً، لا يفعل شيئاً سوى قراءة القرآن. لم يتعرّف إليه. لكن بعد سنوات اكتشف أنّ زميل حجرة التعذيب الطيب ليس سوى الشيخ عمر عبد الرحمن، الذي كان من بين المخططين لقتل السادات!
بعدما أُفرج عنه، توجّه مباشرةً إلى «مقهى ريش»، حيث يجلس أصدقاء ندوة الجمعة. وعندما رآه نجيب محفوظ، قال له «تعالَ يا كفراوي. أنا عايزك تحكي لي بالتفصيل ماذا حدث». وحكى الكفراوي، ونجيب محفوظ ينصت باهتمام. بعدما انتهى الكفراوي من حكايته، ربّت محفوظ كتفه قائلاً: «ولا يهمّك، السجن للجدعان». ومضت شهور وصدرت رواية محفوظ البديعة «الكرنك». اللافت أن الكفراوي يكاد يكون من القليلين بين أبناء جيله الذين لم ينضمّوا إلى أيّ تنظيم سياسي تحت الأرض أو فوقها. يضحك: «مرة وحيدة طبعنا منشورات بعد هزيمة 67، لتوزيعها في ميدان «باب اللوق». لكنّ المرحوم عبد الحكيم قاسم لم يوزّعها، بحجة أنه لم يجد مواطنين يعطيهم المنشورات»!
وفي منتصف السبعينيات، بدأت تغريبة المثقّفين المصريين في المنافي. تلقّى الكفراوي عرضاً للعمل في السعودية. تردّد في البدء، ثم سرعان ما حسم أمره بالقبول. وحين عاد الى القاهرة بعد خمس سنوات، «كانت الأماكن قد تغيّرت، والأصدقاء والزمان. لقد عدت إلى مدينة لا أعرفها». لم تتوقّف كتابات الكفراوى بعد عودته. لكنها اتسعت لتشمل تجارب أخرى كثيرة، وتقنيات استفادت من رواية أميركا اللاتينية، وتيار الواقعية السحرية. «هو التيار الذي نبّهنا إلى مخزون تراثنا، وما يحويه من أساطير وخرافات صالحة للكتابة». تغيّر كل شيء من حوله، وبقيت نظرة الطفل الصغير التي لا يزال يكتب بها!


5 تواريخ

1939
الولادة في قرية كفر حجازي ـــــ محافظة الغربية (مصر)

1961
حصل على دبلوم تجارة

1972
اعتُقل في «سجن القلعة» ستة أشهر

1984
صدرت مجموعته القصصية الأولى «مدينة الموت الجميل» (دار كتبخانة)

2010
تُصدر له «دار الشروق» المصرية كتاب «20 قمراً في حجر الغلام»