مع أن التسمية من الممكن أن تندرج ضمن «كليشيهات» المهن، إلا أن وصف الممرضات اللواتي يعملن مع الأطفال المصابين بالسرطان بالملائكة يبدو لمرة صائباً. فاللواتي يعتنين بهؤلاء الأطفال بحاجة إلى صبر ملاك لتحمّل يوميّات وجع كائنات صغيرة لم تبلغ بعد عمر التحمّل
راجانا حمية
دوماً يغلبها البكاء. تمرّ السنوات، الواحدة تلو الأخرى، ولا شيء يتغيّر في المركز عليها إلا جرعات الألم التي تكبر مع كل فقد لأحد مرضاها. لا الضجيج ولا حتى ضحكات الأطفال تدوزن شعور لينا عوالي بفراغ الغياب. فهنا، عندما يحصل الموت، يُشرّع المكان للحزن. لا يعود المفجوعون وحدهم من يعانون. ثمة من يعاني تعب الغياب أيضاً. هي مثلاً. عندما يقترب الموت من أحد الأطفال، تتوزع المعاناة بين عائلة تفقد للتوّ مريضها، وممرضات يجهدن للتخلّص من تذكّر الرمق الأخير. وغالباً ما تبقى هذه الذكرى عالقة في مكانٍ ما من الرأس، كما في حالها، هي المسؤولة عن الممرضات في قسم العيادات الخارجية.
خمس سنواتٍ مرت على عملها في المركز. في سجل عاملةٍ أخرى، قد تكفي تلك السنوات للتأقلم، لكن في حالتها «لم تعد السنوات عبرة للتأقلم مع عمل كهذا»، تقول عوالي.
كأنها تختبر صعوبة العمل للمرة الأولى. فرغم أنها هي التي اختارت اختصاص التمريض ـــــ وهي المولودة في يوم الممرضات ـــــ ومن ثم المهنة وعملت فيها على مدى ثلاثة عشر عاماً، إلا أن تلك «السنوات الأربع كانت الأصعب في المسيرة»، تقول. وما يجعلها كذلك أن «العمل هنا مع أطفال مصابين بأبشع وجعٍ».
تخيُّل الوجع وحده كافٍ لتفرغ عوالي ما في جعبتها طوال 5 سنوات. لديها الكثير لتقوله. عن «محمد» الذي غاب ولا يزال رقم هاتفه في ذاكرة هاتفها لا تجرؤ على محوه. عن «علي» والعبارة الشهيرة التي كان يواجهها بها عندما تكون غاضبة «لا أريد لأحد المخاطرة»!( I don't want any jeopardizing). وهي العبارة نفسها التي نقلها علي عن طبيبه أثناء فترة العلاج. تدسّ يدها في جيبها، فتخرج هاتفها لتقول اسميهما. لا تكاد تنطق باسم أحدهما، حتى تغرورق عيناها الصغيرتان بالدمع. تعود إلى ذكرياتها. تبكي قليلاً، ثم تردف قائلة: «يمكن ببكي 5 مرات بالنهار بمكتبي». لا تكفيها المرات الخمس في المركز، فعادة ما تحمل «جزءاً من تلك الهموم إلى البيت»، إذ ليس من السهل دائماً التخلص من رواسب تلك المشاعر بمجرد الخروج إلى الشمس. تغيّر الكثير في حياة عوالي منذ دخولها هناك. باتت أكثر خوفاً على والدتها وأبناء أشقائها وشقيقاتها، وأكثر تأثراً بأحوال «المرضى المعوزين». دائمة الشعور بالذنب ودائمة التساؤل: «هل قصّرت في علاجه؟ هل كان من المفروض أن أعطيه أكثر؟ أن أطيل البقاء إلى جانبه قبل موته؟». لا تجد الجواب دائماً، ولكنها تعمد في بعض اللحظات إلى مضاعفة عملها في المركز. وبدلاً من أن ترحل الرابعة عصراً، تبقى ريثما يترك آخر مريض العيادة. أكثر من ذلك، تخلّت عوالي عن عطلتها الأسبوعية والأعياد «لأنها لا تعني لي شيئاً خارج المركز، أريد أن أكون هنا»، تضيف.
خسرت عوالي الكثير في عملها ممرضة. خسرت بيتاً وطفلاً وحياة أخرى خارج أسوار المستشفيات. لكن، مع كل تلك الخسائر، «ما بحس حالي غير ممرضة».
شابة أخرى لا تجد نفسها إلا ممرّضة. هي دمنة الزايد، الصبية التي تعيد النظر الآن في خياراتها. هل كان صحيحاً أن أكون ممرضة؟ وفي مركز سرطان الأطفال؟ لا واحدة منهن قادرة على الإجابة، وكل ما يمكن هنا التأقلم مع حياة «مسرطنة». لكن، رغم ذلك، تبدو تلك الشابة أقوى من قريناتها، فلا يمكن أن تحمل، كما عوالي، ألمها إلى المنزل، «لأنه بدنا نحمي حالنا»، ولا أن تطيل مدة البقاء خارج دوامها.
تجهد تلك الصبية قدر الإمكان لإبقاء بعض القوة لأجل أطفالٍ آخرين. تبتسم. تركض معهم بثوبها الأبيض داخل الغرف. تفتعل فعل الفرح في لحظات التحسّن. وفي لحظات الوجع «نتألم كما يتألمون. لا مكان للحياد ولا الفصل بين وجعهم ووجعنا». ليس مطلوباً الإحساس الدائم بالوجع، وخصوصاً في لحظات الموت. فهنا، مطلوب استيعاب الغياب.
لكن ثمة من لا يقدر على ابتلاع فكرة فقدان طفلٍ أمضى معه ما لا يقل عن ثلاث سنوات في المركز بين العلاج الكيميائي والزيارات إلى العيادة الخارجية. كريستين حلو واحدة منهن. تعيش تلك الشابة شعورين متناقضين: الفرح «عندما يطلبني أحد الأطفال كي أجالسه أو عندما يشفى أحد المرضى ويأتي لزيارتنا»، وشعور بالألم عندما يرحل الطفل إلى غير رجعة وتعود عائلته إلى المركز للزيارة «لأننا من ريحة اللي راحوا». هنا، لا تستطيع كريستين وغيرها من الممرضات التزام الحياد. يصبح البكاء أفضل الحلول في تلك المواجهة بعد الموت. في المرة التي تحضر فيها العائلة للمواجهة، وغالباً ما تكون الأم، تكتفي بالوقوف خارجاً والتأمل. في المرة التالية، تدخل إلى المركز وتطلب في أحيانٍ كثيرة رؤية إحدى الممرضات أو الغرفة التي كان يتلقّى فيها الطفل علاج «الكيمو».

أسأل نفسي دائماً هل كان من المفروض أن أعطيه أكثر؟
«دائماً هناك مواجهات»، تقول نادين غبريل، المسؤولة عن الممرضات في القسم الداخلي. تذكر غبريل حالة إحدى الأمهات المواظبة على الحضور اليومي إلى المركز، وهي التي توفيت طفلتها قبل شهرين فقط. تقول «تحضر يوم إيه يوم إيه». ثمة آخرون لا يواجهون. يخافون من استعادة الذكريات الموجعة بعد فترة الغياب. فهنا، تكون الذكرى أقسى من المعاناة نفسها التي كان يعيشها الطفل في كنف المركز.
غالباً ما لا يأتي الأهل إلى المركز بعد فقدان أبنائهم، وهنا تكون المواجهة بين الممرضة وطيف الطفل الذي كانت تتابع علاجه يوماً بيوم في المرحلة الأخيرة من العلاج. تصبح «النفسية زفت»، تقول غبريل. وتضيف «إذا لم نستطع السيطرة على الحالة، فقد نصل إلى مرحلة من الانهيار النفسي». لهذا، تحاول غبريل قدر الإمكان المحافظة على «حدٍّ أدنى من القوة والابتسام في المركز لأجل الأطفال والعائلة، وعلى حدٍّ موازٍ من الهدوء في المنزل كي لا يتأثّر الجو».
كلهنّ خسرن الكثير في عملهن كممرضات: خسرن الراحة وبعض الوجوه التي اعتدن رؤيتها، وإن كان المرض يتعبهن دوماً، وخسرن قضاء وقتٍ أكبر مع العائلة، وخصوصاً إن كنّ يعملن بدوامٍ ليلي أو طويل. لكن ثمة ما لم يقدرن على خسارته، وهو العطاء. ربما لأن في مركز سرطان الأطفال «للعطاء أهمية كبرى في حياة أطفالٍ يتسوّلون الحياة»، تستطرد غبريل. وربما لأنه أيضاً «هنا لا يجوز أن يموت طفل في فجر الحياة». ولأنه لا يجوز ذلك، يعيش «الملاك الأبيض» بنبض الأطفال المرضى كي يتسوّل معهم ما بقي من الرمق.