صنعت بيروت اسمه، وعاصر تحولات المدينة شاهداً على عصرها الذهبي الذي شارك في صنعه. منذ الستينيات، مقالاته في «النهار» أرّخت للحركات الطليعية في المدينة التي آمن بها عاصمة للتنوير في أزمنة الظلام العربي
حسين بن حمزة
لا يمكن تخيُّل سيرة نزيه خاطر من دون وضعها داخل صورة بيروت. صنعت المدينة اسمه، وصنع هو جزءاً من اسمها. عاش العصر الذهبي للمدينة وعاصر تحولاتها. رافق تجارب رساميها ومسرحييها وشعرائها إلى درجة يمكن فيها معاينة منجزه النقدي داخل أعمالهم. احتكَّ نصه النقدي بأعمال الآخرين، مثلما احتكّت أساليب هؤلاء بما كتبه هو عنهم. أرّخ لنبراتٍ قديمة وأخرى جديدة تتبرعم وتشعّ. النقد نفسه كان فعلاً مدينياً بقدر ما كان هاجساً ثقافياً وإبداعياً.
على مدى نصف قرن، كتب نزيه خاطر آلاف المتابعات والتغطيات النقدية، لكنه اشتغل بطريقة تجعل هذه المتابعات أكثر ديمومة من متطلبات الصحافة. اليومي والزائل والعابر تحوَّل لديه إلى فنٍّ شخصي ورؤية متكاملة. بطريقة ما، تسرَّبت أفكاره وآراؤه إلى الأعمال التي واكبها، وصارت هذه الأفكار جزءاً من المنجزات الخاصة لأصحاب تلك الأعمال.
بحساسية الشعراء والروائيين اشتغل هذا الناقد والصحافي اللبناني على نبرة نصّه النقدي. هكذا، تحرَّر النقد من ثنائية الهجاء والمديح، ومن هاجسي المجاملة والتعسُّف. صار النقد سؤالاً شائكاً وبحثاً مضنياً. لم يعد محكوماً بتبعيةٍ عمياء للنص أو اللوحة أو العرض المسرحي. صار حواراً مع الذات ومع الآخر في آن، وباتت نصوص الآخرين وأعمالهم مبرراً أو ذريعة لاختبار الذات أيضاً.
ولد نزيه خاطر في ما سيُسمّى لاحقاً بيروت الشرقية، لكنه عاش حياته في غرب المدينة. كثيراً ما سُئل أثناء الحرب الأهلية: ماذا يفعل في بيروت الغربية، وعمَّ يبحث؟ فيجيب بأنه منذ كان في العشرين، أعلن حربه على مجتمع مهترئ ومتواطئ ضد نفسه، وبأنه أعلن الحرب على نفسه لا على الآخرين.
قلةٌ منا يعرفون أنه بدأ الكتابة باللغة الفرنسية، وأن والده هو المؤرخ المعروف لحد خاطر صاحب المؤلفات العديدة عن تاريخ لبنان. الشاب الذي حاز الإجازة في الأدب الفرنسي في منتصف خمسينيات القرن الماضي، اشتغل أولاً مع ديكران توسباط صاحب جريدة Le soir، وأسس صفحة ثقافية فيها. لكنّ الجريدة توقفت عن الصدور بسبب أحداث الـ1958، ثم عمل في «لوريان لوجور» أيام جورج نقاش. سنة 1964، دعاه أنسي الحاج إلى الكتابة في «النهار». كان ذلك بداية الكتابة بالعربية، وتحوّله إلى «كائن نهاري»، بحسب تعبيره.
كيف يغادر الحمرا وهو من جيل تماهى مع بيروت حين كانت مختبراً للحداثة العربية؟
إلى جوار الكتابة النقدية، أدار نزيه خاطر «غاليري وان» مع يوسف الخال. أسس «مسرح بيروت» مع آل سنّو. ذهب إلى باريس. تعمَّق في دراسة الفن التشكيلي وتخصص في علم المتاحف. في موازاة ذلك، حصل على الدكتوراه في المسرح من جامعة «السوربون» برسالة عنوانها «المسرح اللبناني بين ثورتين 1958 ـــــ 1975». عاد نهائياً إلى بيروت عام 1978. كان تحدّياً كبيراً بالنسبة إليه أن يستقرّ في غرب العاصمة التي شطرتها الحرب الأهلية. «أنا أعتبر نفسي من سكان الغربية وشارع الحمرا بشكل خاص. أنا من الرعيل الذي أحبّ بيروت، وأراد لها أن تكون مختبراً طليعياً للحداثة العربية، وعاصمة ثقافية في زمن الظلاميات العربية».
أمضى نزيه خاطر حياته بين «الجريدة» وشارع الحمرا، حين كانت ثقافة البلد بكاملها تُطبخ هناك. إنه جزءٌ من تاريخ المكان ويومياته. حضوره المتواصل يجعلنا نتخيَّل أنه وُلد بهيئته التي نعرفها، بل إننا نكاد لا نهتدي إلى حياة أخرى، سابقة أو موازية، للرجل ذي القبعة المميزة الذي يُشاهد في المقهى وهو يتصفّح الجرائد، أو يكتب مقالة الغد، أو يتلذّذ بفنجان قهوة، متفرّجاً على الحياة من خلف الزجاج. تغيَّر الشارع أخيراً. أقفلت أغلب المقاهي وتحولت إلى مطاعم ومحال ألبسة. لم يبقَ من المعالم القديمة سوى بعض الأطلال... التجأ إلى مقهى كوستا القائم مكان الـ«هورس شو» الشهير. هناك، يواظب الناقد الثمانيني على ممارسة طقوسه اليومية بشغف الشاب الذي كانه في الستينيات.
إنه أشهر كاتب بلا كتاب... كتابه مبعثر بين الصفحات الثقافية لجريدة «النهار» طوال نصف قرن
بالنسبة إليه، «هناك بيروتان اليوم. الأولى امتداد لثقافة الستينيات، والثانية في حالة تشكُّل لدى الشبان الجدد المقبلين على فنون معاصرة كالفيديو والتجهيز والبرفورمانس». بين ماضي المدينة ومستقبلها، احتفظ نزيه خاطر بحيوية نبرته وشبابها. عاصر جيل المؤسسين، وأرَّخ لطموحات الجيل التالي. «أنا اليوم، كما في الستينيات، أمام مدينة جديدة، وعليّ ألا أتخلَّف عن الظواهر التي تُنتجها. على الناقد أن ينصت إلى النبض الجديد. ماضيّ يعلمني كيفية التعامل مع الراهن».
اختار نزيه خاطر ألا يكون إلا ناقداً، لكنه اكتفى بنشر مقاله النقدي في الجريدة، ولم يُصدر كتباً. يبتسم حين نقول له إنه أشهر كاتب بلا كتاب: «نصحني أصدقاء كُثر بضرورة جمع مقالاتي وأبحاثي، لكني لستُ مقتنعاً بذلك. كتابي هو كلُّ ما نشرته في الصفحة الثقافية لجريدة «النهار» طوال خمسين سنة».
ثمة كسلٌ مشروع ومحبَّب هنا. بطريقة ما، نحسّ أنه على حق. امتناعه عن النشر يشبه امتناعه عن الزواج، والامتناعان هما حصيلة حياةٍ أراد صاحبها أن تختلط وتتماهى مع حياة العاصمة التي شغف بها. لعل هذه هي فكرة نزيه خاطر الشخصية عن الخلود الأدبي. أن يكون موجوداً عند الآخرين، لا عند نفسه فقط. أن تكون مقالاته مؤرشفة وذائبة في أعمال من كتب عنهم وفي ذاكرة جمهور الحقبة ذاتها. بحسب رأيه: «الناقد الحقيقي هو من يكتشف المبدع وهو لا يزال واعداً. كل من راهنتُ عليهم موجودون اليوم في المدينة».
اليوم، لا تخلو نبرة نزيه خاطر من مرارة يحاول إخفاءها. تدهورت صحته العام الفائت. رقد في المستشفى عشرة أشهر. افتقد صخب المدينة وأضواءها. انتظر بشوق أن يعود إلى مقهاه وجريدته. لكنّ الناقد المخضرم الذي لم يكتب سوى في «النهار»، فوجئ صباح خروجه من المستشفى باستغناء الجريدة عن خدماته... بقيت له بيروت، حبيبته التي يعانقها من خلف زجاج المقهى.


5 تواريخ

1930
الولادة في بيروت

1955
تخرَّج من الجامعة اللبنانية ـــــ قسم الأدب الفرنسي

1964
بدأ العمل في جريدة «النهار»

1976
دكتوراه في المسرح من جامعة السوربون. تخصص في علم المتاحف

2010
بعد أن استغنت جريدة «النهار» عن خدماته، يدرس عروضاً من منابر إعلامية مختلفة