هي ربة عائلة تعتاش من رعي الماعز وبيع حليبها. هذا التوصيف كان ليصبح كافياً لولا تعقيدات الجغرافيا التي صعّبت حياة عائلة أم أسعد التي تعيش في شبعا وتلالها. فجنود الاحتلال يخطفون كل فترة راعياً من رعيانها الذين ليسوا إلا أولادها
شبعا ــ عساف أبو رحال
طائفة تحدّيات تنتظر سهام حمدان، أم أسعد، صباح كل يوم. فالسيدة الأربعينية تتسابق مع ضوء النهار، مشرقة أحياناً قبله، على عيالها ورزقها ومهماتها التي لا تحصى. تقود سيارة قديمة متهالكة من أمام منزلها عند بوابة مزارع شبعا حتى تخوم بلدة راشيا الوادي في البقاع، حيث المراح، أي حيث تقوم زريبة رزقها من قطعان الماعز برعاية زوجها وبعض أولادها. ثلاث إلى أربع جرار من الحليب هي نتاج القطيع اليومي، وهي الأمل الوحيد في توفير عيش العائلة المكوّنة من 11 فرداً.
قرب بركة النقار التي يتردد اسمها كثيراً في نشرات الأخبار، نظراً إلى وقوعها عند الحدود مع مزارع شبعا المحتلة، ينتصب آخر منزل في بلدة شبعا، منزل فارس حمدان، أبو أسعد، عند أقدام منحدر جبلي يؤدي صعوداً نحو مواقع الاحتلال. منطقة جبلية نائية تنعدم فيها الحركة لولا مرور بعض الدوريات العسكرية لليونيفيل والجيش اللبناني من حين إلى آخر، إضافة إلى بعض قطعان الماعز المتنقلة بحذر شديد. حتى الماعز اكتسبت الحذر من كمائن متقدمة للاحتلال هنا. لا فرص عمل هنا. كل ما هنالك مراعٍ خصبة ومياه جارية: البيئة الأفضل لتربية المواشي. وهكذا كان. كل العائلة تعمل في هذه المهنة.

بعد التحرير في عام 2000 كانت قطعان الماعز ترعى وصولاً حتى مواقع الاحتلال في أعلى المرتفعات. لم تكن هناك أي مشكلة. كانت أم أسعد ترسل رعيانها الصغار مع «الطرش». لكن بعد عدوان تموز 2006 وانسحاب المقاومة من مواقعها، برزت معاناة جديدة أخذت تتفاقم يوماً بعد يوم، تعذّر معها رعي الماشية في «الجرد» وسقيها من بركة النقار. أما السبب؟ فتشرحه السيدة التي كانت «تنقّي» بعض الكرز الشبعاوي، والتي نادراً ما تراها وليس بيدها ما يشغلها. تقول: «بدأت معاناتنا بعد عدوان تموز وإعادة ترسيم ما يسمّى الخط الأزرق مع المزارع، حيث ثبّتت اليونيفيل براميل زرقاء اللون شطرت بركة النقار إلى نصفين: الأول محتل والثاني لبناني، علماً بأن البركة بكاملها خارج الشريط وداخل الأراضي اللبنانية. الترسيم الجديد ضيّق الخناق نسبياً على مصدر المياه، وخصوصاً أن موقع اليونيفيل القريب (الكتيبة الهنديّة) يطلق صفاراته حين تقترب شاة من البراميل الزرقاء لتنبيهها إلى عدم تجاوزها الخط الوهمي المرسوم».
تضيف: «يمكن تجنّب هذه المسألة وتوفير المياه في حال شحّها وعدم كفايتها، لكن الأخطر من هذا إقدام قوات الاحتلال على نصب كمائن متقدمة داخل الأراضي اللبنانية بهدف خطف الرعاة والمواشي. وهذا ما حصل مع ابني ماهر ذي التسع سنوات. فقد اختطفه جنود الاحتلال لساعات ثم أطلقوا سراحه، ثم عادوا واختطفوا نادر (8 سنوات) وأعادوه بعد ساعات». ولكن، كيف تطيق أمّ هذه المضايقات، وخاصة أن أولادها صغار. تقول إنها حين يسرح الأولاد مع القطيع، تعيش حال قلق وخوف، تترقّب وتتابع تحركاتهم من سطح منزلها قبالة المرتفعات. ولهذه الغاية اشترت منظاراً لرصد أيّ تحرّك معادٍ ولمتابعة ما يجري في المرتفعات. وإذا «رصدت تحركات غريبة»، تنادي الأولاد بأعلى صوتها أو تستخدم الهاتف الخلوي وسيلة للتواصل، للانسحاب والتراجع خشية الصدام مع جنود الاحتلال. تتنهّد وتقول: «لقمتنا مغمّسة بالدم»، في إشارة إلى ولدها محمد الذي أصيب العام الماضي جرّاء انفجار قنبلة عنقودية، خلال رعيه القطيع في خراج بلدة الزرارية شتاءً. «زعرنات» الاحتلال لم تتوقف عند حدود: «منذ فترة صادروا القطيع بكامله، 360 رأساً من الماعز، وساقوه إلى خلف الشريط، ثم أفرجوا عنه بعد اتصالات اليونيفيل». خطف الأولاد، مصادرة القطيع، ضيق المراعي، شحّ مصادر المياه، كل ذلك فرض واقعاً جديداً مفاده أن تربية المواشي في هذه المنطقة أصبحت أمراً خطراً. «مش كل مرّة بتسلم الجرّة»، تقول وهي تبتسم. أبو أسعد من جهته فكّر ملياً في المشكلة: لم يجد ربّ العائلة حيلة تُبعد مخاطر الاحتلال وتتيح له استغلال المراعي الخصبة الواسعة القريبة من منزله، فكان الحل الأنسب: التفتيش عن مراع بديلة خارج المنطقة. نجح الاحتلال بمضايقاته في تهجير جزئي لأبو أسعد، فانتقل برفقة أولاده والقطيع إلى منطقة «الفاقعة» التي تقع على بعد 15 كيلومتراً شمالاً، عند تخوم راشيا الوادي في البقاع. وبذلك يكون القطيع «قد تموضع» شمالي خط الانسحاب الجديد، «الحدود بين البقاع والجنوب».
هذا الانتقال رتّب أعباءً إضافية تلخّصها أم أسعد لنا: بدءاً من استئجار زريبة للمواشي إلى شراء المياه بأسعار مرتفعة، ثم مصروف التنقّل يومياً بين البلدة وحيث يقيم زوجها والأولاد في خراج راشيا الوادي. هكذا، تعلّمت قيادة السيارة من أجل التوفير في مصروف النقليات، واشترت سيارة قديمة على قد الحال

المواشي تراجعت إلى خلف خط الانسحاب الجديد بين البقاع والجنوب

اشترت منظاراً لرصد أيّ تحرك معادٍ بعد خطف أولادها الرعيان

لنقل الحليب، وبدأت دوامها الجديد: تذهب كل يوم، فجراً ومساءً، إلى الزريبة، تنقل بضع جرار من الحليب، بعضه يُباع والآخر يستخدم في إعداد اللبن واللبنة. تقضي ساعات النهار مشغولة في غسل الأواني النحاسية الكبيرة وتنظيفها، تخصص جزءاً من وقتها لجمع الحطب اليابس وقوداً للنار لأجل «تفوير الحليب»، تطوف على زبائنها من مختلف القرى والبلدات المحيطة. تفضّل أم أسعد بيع اللبنة المكدوسة بزيت الزيتون، لأنها تدرّ أرباحاً أكثر من الحليب، لكنها تحتاج إلى معاملة دقيقة ووقت وجهد إضافيين. بعض العائلات من الزبائن تقيم في بيروت، لكنّها توصي أم أسعد مسبقاً لتحصل على حصّتها. تقول: «في مثل هذا الوقت من كل عام يتوافر الحليب بكميات كبيرة. بعد منتصف الصيف، تبدأ فترة الشح وترتفع الأسعار ويكثر الطلب، لذا تطلب من الزبائن حجز كمياتهم مسبقاً والالتزام بدورهم. أما الأسعار، فتختلف بين فترة وأخرى، وتخضع للعرض والطلب».
أكثر ما يزعجها ويربكها إعداد «الزوّادة» لأولادها الذين يمضون معظم أوقاتهم في الجبل: «ليست كل الأطعمة تصلح لهذه المهمة. بعضها يحتاج إلى تبريد كي لا يفسد»، لذا تعدّ أم أسعد وجبات غير قابلة للتلف سريعاً، غالبيتها من الحبوب والبرغل وتخلو من اللحوم. أما متطلّبات سيارتها فهي كثيرة، بدءاً من المحروقات، حيث تحتاج يومياً إلى مبلغ 25 ألف ليرة، وانتهاءً بالصيانة و«التأثيرات الجانبية»، كما في آلام الديسك التي استجدّت عليها بعد بدئها بالقيادة، والتي بدأت بمعالجتها بتمارين رياضية منزلية، «يُغشى» على الأولاد من الضحك لمرآها تقوم بها متمدّدة فوق فرشة في المنزل.


ترويع المزارعين

قدر العائلات المقيمة قرب الحدود مواجهة جملة تحديات، وخصوصاً في المناطق الجبليّة النائية. هذا ما يقوله أبو أسعد الذي يشرح أن مواقع الاحتلال لا توفّر جهداً في ترويع المزارعين ورعاة المواشي كلما سنحت لها الفرصة، بهدف تهجير الناس لتسهيل تجوال جنود الاحتلال ونصب الكمائن المتقدمة على حساب الأراضي اللبنانية المحررة.