عندما فتح يحيى باب النظارة الحديدي طالعته الشمسُ محرقةً، فشكرها لأنها «حجبت قصر العدل اللبناني عن نظري، فمن المهزلة أن يَبعد هذا القصر خطوات عن سجن ينتهك أبسط حقوق الإنسان»، في هذه الشهادة يروي يحيى قصة مكوثه في الزنزانة رقم 12
نارمين الحر
اقتيد العراقي يحيى إلى نظارة الأمن العام اللبناني لأنه بقي في لبنان بعدما رُفض طلب تجديد إقامته. بعد التحقيق الأوّلي، وضع الشاب في زنزانة للحالات الخاصة والمرضى، يروي أنه التقى في تلك الزنزانة بنزلاء مصابين بمرض الجرب، يقول إن نسبة انتشار المرض مرتفعة، رغم توافر الدواء للمصابين والمصابات به. لم تطل إقامة يحيى في هذه الزنزانة، «نقلوني إلى مكان آخر عندما توافر مكان لي»، الزنزانة الجديدة هي بمثابة «قفص فيه 50 شخصاً ورقمه 12»، وهناك بات يحيى ثلاثة أشهر.
أول ما تعرّف اليه يحيى في تلك الزنزانة هو «نظام النوم». السجناء ينامون في فسحة يدعونها «الميدان». يفترشون الأرض ويتمددون بطريقة تجعل رأس سجين يقابل أقدام سجين آخر. لكن هذه ليست حالة السجناء القدامى. على أطراف الزنزانة ينام كل ثلاثة مساجين قدماء على فراش، يقول يحيى «هذه نعمة لم أتذوّقها»، بحسب النظام، كلما تمّ ترحيل سجين قديم ينام «على الطرف»، يحلّ مكانه سجين من وسط الميدان.

أكل ودكّان

يستيقظ نزلاء النظارة عند الثامنة أو التاسعة صباحاً، رغم أن الموعد الرسمي هو السادسة، كره يحيى اللبنة لكثرة ما تناولها، فالفطور مؤلف من سندويش لبنة أو مربى مع شاي. أما وجبة الغداء فهي عبارة عن سندويش مرتديلا مع برتقالة أو ما شابه. وبين الساعة السادسة والثامنة ليلا يقدَّم خبز وبطاطا مسلوقة وزيتون عشاءً للسجناء. مندوبو جمعية «كاريتاس» يحملون للنزلاء مرةً أو مرتين في الأسبوع أنواعاً مختلفة من الأطباق المعروفة في بلادنا، «عدا ذلك ممنوع إدخال الطعام المطبوخ والخضر الى السجن لئلا تهرّب المخدرات. لكن البسكويت مسموح، البيبسي ممنوع. وهناك دكانة تأتي إلينا بدل أن نذهب نحن إليها» يقول يحيى.
يقول يحيى إن السجناء لا يكنّون الكثير من الود للضباط في النظارة، لذا ارتأى السجناء اختراع ألقاب لهم، «لفشّ الخلق» والتنكيت عليهم من دون احتمال التعرّض للعقاب. «مثلاً عندما عرّفوني على الضابط قيل لي «عجل بني إسرائيل» يجول ويصول في نظارة الأمن العام، تحت جسر العدلية. يتنزه بين زنزانات السجناء مرتين في الأسبوع. هو لا يأكل العشب، بل يأكل المسبّات من السجناء كل ما مرّ لجعله حياة السجن الداخلية قاسية، لا تطاق» يقول يحيى ضاحكاً، ثم يتحدث عن الضابط الذي لا يكثر من الكلام «عادل وينتصر دائماً للحق، لكنه كان دائماً يردد بلا حكي، بلا صوت».
يصمت يحيى فجأة، يستعيد الذكريات السيئة، وجو الزنزانة الخانق، «في الأسبوع الأول أصابني وجع رأس قوي، لكن الممرض قال إن ذلك عائد إلى نقص الأوكسيجين في النظارة، وقد اعتدت الأمر لاحقاً».
يخرج يحيى وأقرباؤه من زنزانتهم للتحدث عبر التلفون أو لاستقبال زائر أو لزيارة الطبيب، ولكن «المعترّ» هو من لا يحظى بزيارات، وخاصة أنه لا باحات للنزهة في النظارة «أحيانا يكتب السجناء أسماءهم على لوائح الاتصالات من دون نية إجراء أي اتصال ليسمح لهم الحراس بالخروج من الزنزانة» يقول يحيى الذي يبدو كمن يريد أن يرسم «بورتريه» للنظارة، لكل تفاصيلها ومكوناتها، يقول إن الحراس متنوّعو الأطباع، بضعهم يمارسون ضغوطاً ومضايقات على السجناء الأجانب، «فيما البعض الآخر يتحدث إلينا ويسأل عن حالنا».
في نظارة الأمن العام، «يشكو بعض السجناء من التمييز ضدهم، إنه تمييز على أساس الجنسية أو الهوية»، يؤكد يحيى الذي يضيف «توزّع الوظائف بطريقة قسرية على نزلاء النظارة، شاويش فتح الزنزانات وظيفة من نصيب السودانيين، وشاويش الأكل سريلنكي أو باكستاني، وشاويش التنظيف هندي أو باكستاني. أما النساء فيغسلن الثياب»، يلفت يحيى إلى أن «الشاويش الذي يفتح الزنزانات هو الذي اتصل بأهلي وأعلمهم بأني في سجن الأجانب بعدما أعطيته رقمهم. فعند وصولي لم يرفض مسؤولو السجن طلبي للاتصال بأهلي، غير أنهم لم يدعوني أفعل ذلك» يقول يحيى.

هدايا نجمات؟

بعد إتمام التنظيفات والتحقيقات، وكي لا يدهم الفراغ، يشاهد السجناء أفلاماً يومياً على أجهزة تلفزة يشاع في السجن أنها من تقديم نجوى كرم أو نجمة غناء أخرى، وأن تلك النجمة ترسلها عبر كاريتاس. غير أن كاريتاس تفيد أنها من تقديم جهة أوروبية. تأتي الأفلام بلغة عربية، أو هندية. وكثير منها أفلام «أكشن».
قد تبدو مادة الترفيه هذه مفيدة، لولا أنها وسيلة لتغييب حق السجناء في متابعة نشرات الأخبار عبر أجهزة التلفاز والراديو المهدور يتلطّى وراءها. تطول الجلسة بلا إحساس بالزمن «فلا شمس ولا قمر للدلالة على الوقت» يقول يحيى حتى يبدأ تعداد السجناء، فيعرف السجناء أنها تقريباً الساعة العاشرة مساء، ويختم الشاب العراقي «كنت أبقى ساهراً حتى أنام في الميدان. على أصوات شفاطات الهواء، رجلي على رأس رفيقي، ورِجل رفيقي على رأسي».

كف، كفّان، ثلاثة


كنت أنام في الميدان على أصوات شفاطات الهواء، رجلي على رأس رفيقي ورِجل رفيقي على رأسي

يمضي النزلاء النهار «بين الدردشة والخضوع للتحقيقات اليومية، ما عدا يوم الأحد»، ويلفت يحيى «رسمياً تتواصل التحقيقات حتى الساعة الثامنة، إلا أن تحقيقات خاصة تبدأ بعد الساعة التاسعة ليلاً، يقوم بها ضبّاط محددون»، ويضيف الشاب العراقي إن العنف من وسائل التحقيق، يروي «مرة عندما كان دوري في التحقيق، وصلت الى مكتب فيه بنت هندية على ما أظن، كانت «مفجّمة من الضرب». والمحقق يستعمل مسطرة صلبة.
تقرير «السجون اللبنانية: الهواجس الإنسانية والقانونية» صدر في 24 شباط الماضي، وقد أعدّه «المركز اللبناني لحقوق الإنسان»، نقرأ في الصفحة 56 أن الفريق المعدّ له شاهد «امرأة أفريقية مكبّلة وتنزف على أحد المقاعد. ومن مكتبه، رجل بلباسه العسكري يرفع يده عليها ويصرخ» في وجهها لتصمت.
لكن، لم يتعرض للضرب لأن لديه أصدقاء يزورونه من خارج السجن، كما أن هناك محامياً يدافع عنه. دوناي رئيسة المركز اللبناني لحقوق الإنسان تقول: «من المحتمل أن يأخذ الحراس والضبّاط راحتهم مع الذين لا زوار لديهم ولا اتصالات، ولأن من يدخل سجن العدلية لا يخرج إلا ليرحّل الى بلده الأم. يجب على المنظمات غير الحكومية وربما أجهزة من الدولة الحصول على شهادات للسجناء والموقوفين بعد مغادرتهم لبنان».
تعرّف الاتفاقية المتعلقة بمناهضة التعذيب سنة 1984 «التعذيب» بكل فعل فيه معاناة جسدية أو نفسية بهدف الضغط على شخص، وتأتي هذه المعاناة علي أيدي عملاء تابعين للدولة أو لأي شخص آخر يعمل بصفة رسمية.


«سجن الأجانب»: بطاقة تعريف

يتذكّر يحيى الكثير من التفاصيل عن ذلك المكان الذي حجب عنه نور الشمس لشهور، فنظارة الأمن العام اللبناني أو «سجن الأجانب»، تقع تحت أرض جسر الياس الهراوي. تضم بين 450 و500 موقوف أجنبي وفيها 13 زنزانة مساحتها 40 متراً مربعاً. كان المكان مرأباً حوِّل في 14 كانون الأول 2000 الى مركز احتجاز، لذلك تفتقر النظارة الى نور الشمس والهواء الطبيعي وإلى باحة داخلية أو ملعب للتنزه، أما شفاطات الهواء الكهربائية فيشكّل هديرها تلوّثاً صوتياً.
في النظارة مكتب لجمعية كاريتاس. يداوم مندوبا كاريتاس من الصباح حتى الرابعة بعد الظهر. ومن ثم تأتي الجمعية بممرّض يجول على الزنزانات ويطمئن على حالهم. الزيارات مسموحة يومي الثلاثاء والخميس. من ميّزات سجن الأجانب «عدم القدرة للوصول الى المعلومات فيه» حسب نديم حوري الباحث في منظمة «هيوم رايتس واتش».
من جهة ثانية، أعلن وزير الداخلية المحامي زياد بارود أنه سيصار إلى نقل نظارة الأمن العام إلى محيط سجن رومية، وأشار إلى أن المبنى المرتقب سيموله الاتحاد الأوروبي بـ 500 ألف يورو.