لعقود خلت، كانت قرى البقاع تعتمد كثيراً على الحمير في توفير تنقلاتها واحتياجاتها. اليوم سجل لتقاعس الدولة في أداء واجباتها الخدماتية «الفضل» في إعادة طوابير الحمير إلى بيت مشيك، فهل ستعمم الدولة تقاعسها وإهمالها؟

البقاع ــ رامح حمية
مع فجر كل يوم، يمتطي علي مشيك ابن الأعوام العشرة صهوة حماره، ويشق طريقه بين أشجار السنديان والملول في رحلة يومية، ليست لمرافقة قطيع ماعز أو حتى كزدورة صبيانية، بل لتأمين المياه لأهله من ينابيع المورج والفريضة والجديدة، التي تبعد مسافة تتراوح بين ثلاثة وثمانية كيلومترات عن بلدته مصنع الزهرة إحدى قرى بيت مشيك. الرحلة لا تقتصر على علي فقط، بل هي تشمل عدداً من أبناء عمومه وأقاربه وجيرانه. كل على حماره، وفي «الخرج» غرست غالونات للمياه تتراوح سعتها بين 20 و30 ليتراً. الدروب التي خطّتها حوافر الحمير في السفوح الشرقية للسلسلة الغربية، طويلة ومتعرجة، وفيها من الخطورة والوعورة ما يكفي ليسكن الخوف والقلق في قلب سعاد مشيك والدة علي، طيلة غيابه عنها. «لإنو ما عنا ماي، وما فينا نشتري .. الصهريج بخمسين ألف منين بدنا نجيب هالمبلغ كل أربع خمس إيام». تختصر سعاد بهذه العبارة المعاناة التي تدفع أكثر من ثلث سكان البلدة، «من المشحرين والمعترين»، كما تقول، لإرسال أبنائهم في رحلات تتكرر أكثر من ثلاث مرات في اليوم الواحد، معتمدين على الحمير كوسيلة نقل لتوفير كميات محدودة من المياه. أما مريم مشيك فقد عبرت عن رأيها باستياء عارم «أن العيشي اللي عايشينها ما في حدا عايش متلها حتى في الصومال»، وذلك بالنظر إلى افتقار أكثر من 3000 شخص للمياه والكهرباء، وتقول: «ما بتستحي الدولة ومسؤوليها بوجود قرى ما فيها خدمات أبداً وموجودة على خريطة الجمهورية اللبنانية.. وكرمال شو!؟.. كرمال 2000 أو 3000 دولار ثمن محول كهربا أو قساطل للمياه».
وعليه، فالحال في مصنع الزهرة لجهة حرمانها من المياه، ينسحب على ست قرى أخرى من قرى بيت مشيك، المترامية عند تخوم جبال لبنان الغربية، وذلك على الرغم من توافر المياه داخل القرية في بئرين، وعند مشارفها في محطة أنشئت خصيصاً من أجل مياه اليمونة. حسين مشيك مختار قرية مصنع الزهرة أكد لـ«الأخبار» أن الأمر ينطوي على «تقصير كبير من وزارة الطاقة والمياه، وخاصة مؤسسة مياه البقاع، التي تطلق الكثير من الوعود والدراسات دون التنفيذ»، شارحاً أن مجلس الإنماء والإعمار أنجز منذ أكثر من خمس سنوات محطة مجهزة بالكامل لاستقبال مياه اليمونة عند مشارف البلدة وفقاً لمبدأ الجاذبية، ولضخها من جديد باتجاه القرى، إلا أن شبكة المياه الجديدة وصلت إلى سور المحطة فقط، دون إجراء التوصيلات اللازمة لداخل المحطة، بذريعة عدم توافر قساطل لمسافة لا تتعدى 1000 متر! كثيرة هي المطالبات والزيارات من الأهالي إلى مؤسسة مياه البقاع، كما يؤكد مشيك، «لكنها كانت تنتهي جميعها بالدراسات التي لا يأتي من بعدها أي تنفيذ» يقول. وإذا كانت محطة مياه اليمونة في مصنع الزهرة تحتاج إلى ألف متر من القساطل حتى تعمل، فإن البئرين الارتوازيين اللذين يمكن أن يوفرا البديل، يحتاجان في ظل وجود المضخات والتجهيزات الكاملة، إلى بعض التوصيلات الفنية والكهربائية من مهندس فني بالنسبة للأول، فيما الآخر بحاجة إلى محول كهربائي لتشغيل المضخة.
من جهته، حسن مشيك عضو لجنة الوقف في البلدة لفت إلى أن تشغيل البئرين يخفف كثيراً من المعاناة اليومية التي يعيشها أهالي مصنع الزهرة وصقر ونجم وسيرة هنا ووادي العويني، ذلك أن الغالبية لا يتمكنون من شراء صهاريج المياه بالنظر إلى كلفتها الكبيرة، التي تصل حد 50 ألف إذا كانت المياه نظيفة من نبع حوش باي في طاريا، أما إذا كانت من آبار قريبة فلا يقل سعرها عن 35 ألف ليرة. مصدر مسؤول في مؤسسة مياه البقاع لم ينف مطالبات أهالي مصنع الزهرة بل أكد على أحقيتها، لكنه عزا التأخير الحاصل إلى «ضعف الإمكانيات المادية في المؤسسة»، لإنجاز العمل في محطة اليمونة، مشيراً إلى أن المؤسسة بدأت حملة لرفع التعديات عن المياه، «ولربما يتوافر حل لمشكلة محطة مصنع الزهرة»! أما عن تشغيل البئرين فأكد «أنهما محور اهتمام بعد إنجاز الدراسات بشأنهما، وعم ينشغل لتوفير محولات كهربائية لهما».
وفي رحلة الإياب على تلك الطريق الحلزونية المؤدية إلى قرية مصنع الزهرة، يعترضك بين المنعطف والآخر طابور من الحمير وغالونات للمياه، فلا يسعك إلا أن تخال نفسك وقد اخترقت حدود الزمن راجعاً إلى الوراء مسافة قرن منه، فلا تملك إلا أن تتابع سيرك مبتسماً بمرارة، آملاً أن تعثر على وطن، عند المنعطف الأخير!