سمير يوسفبالطّبع ستجد المزيد من الكلام على الممسحة المتسخة بعد أن يرحل كلّ الزبائن. لا أعرف إن كان البشر سيّارات أم العكس، بمجرّد أن يتساقط البنزين إلى باطن الشهوة يصدرون صوتاً. يُرمى الكلام حيث قيل، يموت أقلّ من نصفه على ظهر الطاولة لأنّ القسم الأوّل وُلدَ ميْتاً. بالتأكيد، ليس هذا هو «حليب الفجر» الذي تحدث عنه بول سيلان. في كلّ الأحوال، لا مكان للقصص في هذا المطعم الضيّق. بالأحرى، ليس هناك سوى قصصي أنا والرفاق الذين يعملون هنا، أما الباقون، إداريين كانوا أو زبائن، فهم نصف أموات مقارنة بنا. على هذا الرصيف المغلق من جهاته الأربع بشباك حديدي، قد يحني عاشقان رأسيْهما فوق رغوة فنجان «الكابوتشينو»، قد يتعانقان ويتذكّران القصص أمام تابوت الذاكرة وابتسامة التطلّع لغد ممكن، هذا عدا الطعام السيئ الذي يمضغانه. عند وقت الغداء، قف برهة متناسياً ما في يدك، واضعاً الشارع نصب عينيْك. لا تعليق. فأصحاب المال فرضوا علينا قانوناً، قانون وسط المدينة، يشبه قوانين الغاب، لكنّه يرتدي ربطة عنق. منذ أزمان ونحن نعيش كقرود في سيرك.
اتضح للجميع أن الرأسماليّة ارتضت أن يقود رأسمالي أو متخرّج حرب أهليّة مجموعة من الشباب المكافحين. فقط لأنّه يملك المال، اشترى كرامتنا التي ننزعها مع ثيابنا قبل أن نلبس «يونيفورم» العمل. يزورنا الزبائن ويتكلّمون عن لذّة الأصناف التي نقدّمها، فنفرح. إنّها قشرة الموز التي يرمونها لنا فنصير بهلوانيين وأليفين وحسني الضيافة. هكذا يكتمل السيرك وينتشي الجميع من عرقنا. نسينا أن نذكر الأهم: كل ذلك يجري ضمن قفص. في النهاية، لا بدّ لكم أن تعرفوا أنّ هناك شبح خنزير كبير يخيّم فوق الفنادق والمطاعم والحانات. للأسف، لا يعرف الجميع الكاتب جورج أورويل وحكايته عن الخنازير. أنا أيضاً، كلّ ما أعرفه هو أنّ أنصاف الأموات يعبرون البحر باتجاهنا، يجرّون عاداتهم وتقاليدهم ويسيئون للّغة الحبيبة بلكناتهم الملعونة. في آخر الليل، أيْ بعد القيامة، تمسح آخر طاولة من الكلام العالق بها. بعدها، يرتاح الخشب منك، فأنتَ أيضاً نصف ميْت.