هي المدينة من أول حجر إلى آخر قلب نابض فيها، أخبرتني حين أسررتُ لها عن شغفي بأبنيتها العتيقة، أنني أقرب ما أكون إلى السذاجة، لأن تلك الأبنية كالندوب التي لا يختفي أثرها، وخلف كل حائط تتبجح بتواصلك العاطفي معه لحيوات اكتملت، بؤس كثير، زخات رصاص، أصوات موت، والكثير الكثير من الحظ العاثر. ثم نبهتني أن البناء الذي استوقفني منذ مدة وأعييت نفسي بحثاً عن ترجمته شعراً، قطنه جزار قبيل الحرب الأهلية، ثم ما لبث أن اغتنى خلالها لأنه صار المورّد الرئيسي لإحدى الميليشيات، وفي الغرفة التي تخيلت فيها فتاة صغيرة تعزف البيانو واعتقدت أنك فعلياً تسمع صداه من تراب نوافذها العتيقة، اغتصب الجزار صبية صغيرة أهداه إياها «القواد» عرفاناً لمآدبه الفاخرة.أخبرتها أنني أرى في البؤس تجرّد الجمالية في النفس الإنسانية، رغم يقيني بأنني أكذب، ولكنني لست مستعداً للتجرد من رؤيتي الرومانسية. مدينتي قبيحة جداً بالعيون العملانية، فالرجل اللطيف الذي أحييه كل صباح هو نفسه من باع لحم كلاب إلى حي بأكمله على أنه ذبيحة بلدية، والفتى الذي يخرج إلى مدرسته متأنقاً كان يبكي في سريره طوال الليل لأنه رأى والده يتحرش بالفيلبينية التي جاءت من أقصى آسيا لتعمل في مدينته الرائعة. وأبو جميل، صياد السمك الذي تتوقف قربه كلما خرجت للركض على الكورنيش صباحاً، والذي لطالما نقلت إعجابك بتجاعيد جبهته وشبهتها بأبوة مدينتك الرقيقة، كان يضرب ابنته طوال الليل لرفضها الزواج من جارهم الأرمل بحجة رغبتها بمتابعة دراستها الجامعية. وبائع الخضار المتجول الذي يوقف عربته قرب مبناك المفضل وتحت الشرفة التي تئن بحشرجة الفتاة القديمة، هو رجل طيب فعلاً، لم يغمض جفنه طوال الليل وهو يفكر بأقساط الأولاد المستحقة وبكيفية تأمين ثمن لدواء زوجته المريضة بـ«ذلك المرض العضال». في مدينتي هندي يلبس رداءً أخضر طوال اليوم وينظف قمامتها مقابل دولارين أو ثلاثة في النهار الواحد، هل تبعتهم مرة واحدة أثناء تجوالك الليلي بحثاً عن الإلهام؟ ربما لو استمعت لدقات قلبه لفعلت، وبحثت عنه، فستجده ليلاً ينام على حصير عتيق، يضع يديه خلف رأسه وينظر إلى السماء من شباك برج غير مكتمل البناء، وحوله تتناثر أجساد سمراء أخرى، أحدها من حيدر أباد وآخر من بومباي وآخر كشميري وجهه مليء بآثار الجدري وعيناه السوداوان تسبحان بقطرات الدموع التي تتجمع طوال النهار. وأنت نفسك، حين تقسو عليك الحياة، لن تعود راكضاً بحثاً عن هوائي لتخبئ جزعك، لن تستمع إلا لنبضك ولهاثك المستمر وأنت تعبر قرب المشهد ذاته الذي أجللته وكتبت عنه، تبحث وسط الغلاء المستمر عن حفاضات طفلك الثاني، وتعد حبات العرق التي ذرفتها دون أن تجد معادلة جبرية واحدة تبرر تدني قيمتها السحيقة أمام العملة الأميركية الصعبة.
في الحديقة العامة لا تستمع لأصوات العصافير ولا تنتظر ظهور سنجاب مذعور، هذا إن لم تطغَ على المشهد السمعي أبواق السيارات الكثيفة وربما زمامير الموكب المار أمام وزارة الداخلية حيث يقف دركي شاب يحاول التخلص من نقاط العرق التي تستدرّها الشمس الحارقة، وتعلق في منتصف ظهره تحت البدلة المدججة.
من مدوّنة «أزرق»
http://givenchiz.blogspot.com