راجانا حمية
يستيقظ المتعبون من نومهم باكراً. يحملون بضائعهم ويمشون مستهدين بضوء الفجر الخافت إلى حيث ينتظرهم الرزق: سوق صبرا الشعبي. يصلون هناك، فيفرش كل واحد منهم مكانه المستأجر «بطلوع الروح»، منتظراً نور الشمس، كي تأتيهم بالزبائن. تمرّ دقائق الانتظار ثقيلة مليئة بالنعاس. فما بين انتهاء الفجر وطلوع الشمس، لا مكان لغير السكون. وإن كان ثمة حركة، فلا تعدو كونها حركة البائعين، وهم يرصفون بضائعهم على بسطاتهم أو على الأرض في محالهم المبنية على عجل.
العاشرة صباحاً. تزدحم السوق. تختلط أصوات الباعة بأصوات «الميكروفونات»: 3 بألف. 4 بألف. قرّب يا طيّب. أبو رخّوصة. لا مكان هنا للأسعار المرتفعة، فهنا «سوق الدراويش والمعترين»، يقول بائع الخضار شيفان داوود.
يمتلئ السوق. تعجّ طرقه الضيّقة أصلاً بالشارين والمتفرجين. الكلّ يصرخ حتى تنفق بضاعته ولا تعود الأصوات مفهومة.
لكن سوق الفقراء ليس بصخبه المعهود في مثل هذه الأيام، عشية العيد. فلا الحركة التي يراها الغرباء عنه كثيفة.. هي فعلاً كثيفة، ولا حتى الزائرون. فقبل عامين كان سوق صبرا مقصد كل المناطق والجنسيات. يقودهم إليه رخص أسعاره وتوافر البضائع. ففي سوق الفقراء، تجد «شو ع بالك ومش خاطر ببالك»: من خضار. فاكهة. لحوم. أدوات منزلية. ألبسة. موسيقى. كتب.
لكن، يبدو أن الكثيرين من زبائن السوق قد تركوه في هذا الموسم، فهل هذا صحيح؟
شارون وبائعون «الحال من بعضه»، يقول بائع الألبسة عبد القادر أسّوم. في مثل هذه الأيام، كان أسّوم «يشيل» ما لا يقلّ «عن مليون ليرة صافي». الآن، ينتظر الرجل الخمسيني خلف كرسيّه زبائن معظمهم «متفرجون». ينتهي يومه «على 500 ألف غير صافية، سأحسم منها أجرة العاملَين وإيجار المحل». يتذكّر عيد الفطر منذ 3 سنوات، حين كان يحنّ إلى كرسيّه لأنه لا يستطيع الجلوس عليه أكثر من 5 دقائق لكثرة المتبضعين. اليوم، ينتظر الرجل زبوناً قد لا يأتي. يختصر حاله حال معظم محال الألبسة كما تختصر فاطمة حمّو حالة معظم الزبائن. دخلت حمّو محل أسّوم. تجلس طفلتها أرضاً وتبدأ بتقليب البضاعة. تتفحّصها تارة و«تمطّها» طوراً للتأكّد من.. جودتها. تختار 3 سراويل و3 قمصان وتذهب لـ«تسومها» عند البائع. يجيبها أن القطعة بعشرة «بس غسيل ولبس». لكن السعر «ما بيناسبني، تقول حمّو، عندي 3 ولاد، يعني بطلع من عندك بشي 150 ألف». لا تستطيع حمو دفع هذه القيمة، علماً بأن الثياب لن تكون خاصة فقط بالعيد والمدرسة على الأبواب، لكن المدرسة تستلزم شراء أمور أخرى. لهذا، ينقطع البعض عن الشراء الآن، بانتظار موسم المدرسة لـ«ضرب عصفورين بحجر واحد»، كما تفعل ميرفت لوباني. فالوالدة التي «أنعم» الله عليها بستّة أطفال فضّلت شراء ثياب تناسب زي المدرسة و«تُلبس في العيد».
«شاطرة»، تقول السيّدة الواقفة إلى جانب لوباني. لكن، رغم «الشطارة» ليس الكل قادراً على اتباع الأسلوب نفسه. والسبب؟ «الحالة المادية التي تدفعنا للتغاضي عن كل هذه الأشياء، حتى لو كانت رخيصة»، تقول أم محمد العلي. أم محمد تكتفي من سوق الفقراء بالخضار «التي نستطيع شراءها بالطبع». أما الفاكهة؟ فترف، واللحمة؟ «أوهوه». هكذا تجيب.
«أمور الناس تعبانة»، يعلّق أبو رأفت، صاحب بسطة السمك عند باب الحسبة في السوق. احمرّ وجه أبي رأفت من شمس أيلول اللاهبة، ومع ذلك لا وقت للاستراحة. عليه أن يبيع السمك المكدّس على البسطة قبل الرحيل. كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهراً، وأبو رأفت لم يبع إلا «بشي ثلاثين ألفاً». يخاف الرجل من العودة خالي الوفاض. والبضاعة تعود كأنها لم تنقص، فيما إيجار البسطة الأسبوعي والبالغ 150 ألفاً «لا بدّ أن يسدد على آخر فلس». كل هذا لم يكن يحصل سابقاً وحتى أيام العيد، حيث كانت البضاعة تُباع «قبل أن يحل الإفطار، ما يبقى عندي ولا حبّة»، لكن هذا العام «الكل تعبان».
شو جايي ع بالك ومش خاطر ببالك