حسام السرايلا يتذكّر عبد الرحيم ياسر من طفولته إلا الخدوش التي كان يعود بها إلى البيت. علامات كان يتركها نهارٌ أمضاه في ممارسة لعبته المفضّلة: التسلّق من شجرة إلى أخرى. الطفل الذي هام بمنظر البساتين في ناحية غماس (محافظة الديوانيّة)، حاول أن يمتلك جماليات المكان المطلّ على الفرات. طبيعة منبته الأوّل أصبحت لاحقاً ملاذه من التعب، ومن أعباء الحياة اليوميّة. «أشعر بأنّ الطبيعة تعطيني التوازن وتُعلِّمني.»، يخبرنا رسام الشرائط المصوّرة والكاريكاتور العراقي. في الصف الأوّل من المرحلة الابتدائيّة، سأل الله أن يجعله رسّاماً. بعدها كانت الرسوم الأولى: أخته الكبرى وابن الجيران. لاحقاً أشاد الأستاذ برسومه، فحمّله من دون أن يدري مسؤولية «إدهاشه دوماً».
في بيئة غماس، عشق الطين الحرّ. كان وأترابه يبحثون عنه كالباحث عن كنز ثمين. يصنعون منه أشكال حبات الفاكهة والخضر، يلوّنونها، ويتفاخرون بها أمام العائلة والجيران. وحتّى يومنا هذا، لا تفارق بال ياسر علبة أقلامه الملوّنة وطيور اللقالق بمناقيرها الحمراء المرسومة عليها... «إنّها أهم هدية كانت تقدم لي في ذلك الوقت».
في مرحلة الدراسة المتوسطة، حلم بأن يكون شاعراً. أخذ وعيه يتشكّل بقراءات أعانته على اكتشاف العالم. في المتوسطة المركزيّة في محافظة كربلاء، تحمّس أستاذ اللغة العربيّة لكتاباته الإنشائيّة، فصار يجلب له الكثير من الكتب. كتابته لقصيدة عن فلسطين عام 1968، من أسعد ذكرياته. صارت القصيدة وعنوانها «ليل اللاجئين» محطّ إعجاب زملائه. بعد أيام، قرأها لشاعر كربلائي فسأله: «لمن هذه القصيدة؟ لسليمان العيسى؟». فكاد يطير من الفرح، لأنّ الخبير رأى في قصيدته الأولى نفس الشاعر السوري الشهير.
في تلك الفترة، تنبّه لصحافة الأطفال العراقيّة واللبنانيّة والمصريّة، وبالتحديد رسوم الشرائط المصوّرة، وتعرف إلى عالم الصحف والمجلات والأدب العربي والعالمي. ثمّ قال في نفسه: «لماذا لا أجرب نشر رسومي في مجلّة ما؟»، وأرسل مظروفاً أعدّه بالبريد إلى مجلّة «المتفرّج»، ليجد رسمه على غلافها معلّقاً على واجهة إحدى المكتبات. اشترى عشر نسخ من المجلّة يومذاك. الآن، بعد كل هذا الوقت، لم يعد الرسم يعجبه. «أخجل من التقنية، لكنّ الفكرة عزيزة عليّ».
بعد انتقاله إلى بغداد، لم يغنه الزخم البشريّ ولا طبيعة المواصلات ولا الأبنية، عن بيئته الأولى. حتّى إنّ طبيباً نصحه بالسفر باستمرار إلى الطبيعة. مع مرور الوقت، أخذ يقتنع بأنّه «بحاجة إلى المدينة والريف معاً». مرحلة جديدة من العلاقات التي أصبح صعباً الفكاك منها لاحقاً، ظهرت معالمها في العاصمة العراقيّة. بدأ بنشر رسومه في مجلّة «مجلتي» للأطفال، وهذا ما ساعده على إنجاز رسوم الكرتون لاحقاً.
أوجدت «مجلتي» و«المزمار» هذا النوع من الغرافيك الصحافيّ. تقنية رسوم الكرتون هذه، ساعدت رسامي الكاريكاتور العراقيّين على أن تكون خطوطهم معبّرة وقادرة على الوصول إلى الغرض بسهولة. يبين لنا ياسر كيف تحوّل الكثير من رسامي «مجلتي» إلى عالم الكاريكاتور الصحافي، إلا أنّ «ذلك لم يكن السبب الوحيد، إنّما تأثيرات متنوعة بالشعر والسينما وحتّى الفلسفة التي درسناها في معهد الفنون». هنا يستدرك موضحاً أنّ كثيرين منهم تتلمذوا على أيدي تشكيليّين معروفين.
نصحه كثيرون بألّا يشتغل في صحافة الأطفال لأنه «مشروع فنان تشكيليّ». غير أنه بقي على خياره لاعتبارات كثيرة. بين تلك الاعتبارات: «المساهمة في ترسيخ هذا النوع من الصحافة الضروريّة، فضلاً عن الحاجة إلى الاستقلالية الماديّة، إضافة إلى شعوره بالفخر وهو يعمل مع رسامين أكفاء، مثل طالب مكي، وفيصل لعيبي ساهي، وصلاح جياد، ومؤيد نعمة، ومنصور البكري، ووليد شيت، وضياء الحجار، وبسام فرج».
فنّ الكاريكاتور ظلّ بالنسبة إليه هواية يمارسها كلّما احتاج إلى الابتعاد عن رسوم الأطفال. «من الصعب أن تشتغل هذا العمل المتفجّر بحريّة، في نظام الحزب الواحد، والدولة الأبويّة». علاقة الرسامين الإشكاليّة مع الوضع السياسي ترسخت منذ السبعينيات. لم يستطع الفنان المثقّف الرسم إلا معتمداً على التأويل الذي يضمن عدم محاسبته... وإن اختار المواجهة، كان يتوارى عن الأنظار.
الالتفاف على الرقيب أثمر في المقابل كاريكاتوراً عراقياً متفوّقاً لناحية بعده الثقافي، وابتعاده عن المباشرة والحدث العابر. «نعم ابتعدنا عن الشخصانيّة بفعل الخوف من المحاسبة». يقرّ لنا بذلك موضحاً أنّ عدم خوضه مع أترابه في الحدثي والمباشر والصحافيّ، حرمهم من الشهرة المحليّة، لمصلحة اعتراف عالمي بالقيمة الفنيّة لأعمالهم.
ياسر الذي وصفه الفنان الكبير محيي الدين اللباد، زميله المصري الذي رحل أوّل من أمس، بأنّه «واحد من الأسماء المتميزة في مجال الكاريكاتور العربيّ»، يرى «أنّ عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي كانا الأسوأ لناحية الحريات، مع عسكرة المجتمع وضياع فسحة الحريّة النسبيّة التي كانت موجودة في السبعينيات». وبعد الغزو الأميركي، استمرّت حالة الخوف... رسام الكاريكاتور في جريدة «الصباح» اليوميّة يخبرنا عن أساليب المواجهة الجديدة في عراق ما بعد الاحتلال. «اليوم تحوّلنا من إرهاب الدولة، إلى إرهاب المنظَّمات المنفلتة والتابو الدينيّ». سردٌ يَخلُصُ ياسر في نتيجته إلى أنّه لم يرسم بحريّة، لكنَّه كان يرسم حين يشاء، ويمتنع عن ذلك حين يشاء.
وسط كلّ هذا، يواصل ياسر رفعه لشعار «كيف ترسم تفكر»، ويطمح إلى تأسيس «بيت الكرتون العراقيّ». رغم كثرة أعمال الكاريكاتور المنشورة في الصحف العراقيّة، ورغم خروج معظم الرسامين من رحم تقليد عراقي فذّ في مجال التشكيل، لا يعتقد عبد الرحيم ياسر أنّ هناك مدرسة عراقيّة خاصّة بفنّ الكاريكاتور. «هناك ميزات موجودة لدى كثير من الرسامين بامتلاكهم تقنية فنيّة جيدة، ودراستهم الأكاديميّة وتدربهم على الخط. قد يساعد ذلك مستقبلاً في صناعة النوع»، يقول. فالفوضى برأيه «موجودة في الكاريكاتور كما في السياسة والكتابة...».


5 تواريخ

1951
الولادة في ناحية غماس
(محافظة الديوانية، العراق)

1970
بدأ ينشر أعماله الكاريكاتوريّة في الصحف والمجلات العراقيّة

1980
تخرّج من «كليّة الفنون الجميلة» في بغداد

1990
حاز الجائزة الأولى (مناصفةً) في «معرض كاريكاتور العالم الثالث للرسامين العرب والأفارقة» في القاهرة

2010
يعمل على تأسيس «بيت الكرتون العراقي»