ليس ارتداء الحجاب سهلاً على فتاة اليوم. فرغم أن نسبة لا بأس بها من النساء يلتزمن به، وخاصة في موسم رمضان، إلا أن هذا لا يريحهن من الصراع. هكذا، تتخبط الكثيرات بين لذّتين: لذة إرضاء السماء أو لذة الانغماس في حياة الأرض
ربى أبو عمّو
كان قرار الحجاب صعباً. إلا أن إخلاص اتخذته بعدما أحسّت بذلك الإلحاح الديني. لم تخبر أحداً بهواجسها. أرادت أن تكون وحدها في هذا الصراع، بين منديل خافت أن يتحكم بأنوثتها، وربها الذي ينظر إليها، حسب ما تظن، من مكان تجهله. ارتدته ونظرت إلى المرآة «من تكون هذه المرأة؟ أهي نفسها التي اعتادت أن ترتدي من الثياب أجملها، وأن تجدّد طلّتها بقصات شعر مختلفة؟»، استغربت نفسها. قاومت مدة عام كامل إلى أن اعتادت على نفسها الجديدة وقبلتها. هي مجرّد لحظات قليلة، تحنّ فيها إلى الفتاة القديمة «ربما لم أعد جميلة كما في السابق، لكن الأهم أن أرضي خالقي».
نادين أيضاً محجّبة. ألفت شكلها. لم تتصور نفسها يوماً على غير هذه الصورة. إلا أن الحرية التي يحدّ منها الحجاب بدأت تغريها؛ الأظافر الملونة. الثياب الخفيفة. البحر... البحر كان نقطة ضعفها، لم يقنعها أن ترتاد الشواطئ المخصصة للنساء. اعتادت أن ترافق صديقاتها غير المحجبات، وتجلس على «الشيزلونغ» بثيابها فيما هن يسبحن وأشعة الشمس تبرق على أجسادهن شبه العارية. تنظر إلى الناس والبحر، فتشعر برغبة في البكاء. تنتابها رغبة في الانتقام مما هي محرومة منه، قبل أن تعدل عن فكرتها. قررت أن تسبح بثيابها «هذه أنا، وهذه حريتي، ولا أكترث لرأي الآخرين». وجدت نادين معادلة تناسبها. أمّا ندى، التي أجبرت على ارتداء الحجاب صغيرة، وعيّدت به حينها، فرفضت أن تكذب على نفسها. خلعته. فقد حرمت من أن يُطيّر الهواء شعرها 20 عاماً، بسببه. ندى «تحقد» عليه. فالحجاب جعلها تكذب على نفسها. ولأنها أرادت أن تكون صادقة، خلعته. كانت اللحظة الأجمل. أغمضت عينيها ثم بكت. كان ذلك بعد انتقالها إلى المدينة. حينها قررت فعلاً النمط الذي تريد أن تعيشه في هذه الحياة.
ندى فرحت بارتداء الحجاب وهي طفلة. كانت سعيدة. «إنه الفرح الطفولي والتمثل بالآخر»، كالشاب الذي ينتظر أن يحلق لحيته للمرة الأولى أو أن يمسك سيجارة ليتمثل بمن هم أكبر منه أو أن يطالب أهله بوضع مقوم للأسنان لأن رفيقاً له في الصف يضع مثله. البيئة التي أتت منها محافظة دينياً وتطبق الشريعة الإسلامية بحذافيرها. ظلت متصالحة مع نفسها إلى أن انتقلت إلى المدينة لمتابعة تحصيلها الجامعي. صدمت حين رأت أن هناك فتيات «يشلحن» عن رؤوسهن، أي سافرات. «هل هن بهذه الكثرة!»؟ سألت نفسها. كانت قد تعودت أن تنظر إليهن باعتبارهن «فلتانات، يظهرن لحمهن من دون حياء». لكنها اليوم بدأت تتعرف إليهن، وتراهن بنات عاديات، محترمات، يتمتعن بأنوثتهن.
بدأت تشعر بكمية الارتباك داخلها. حتى الآخرون لاحظوا ارتباكها. شعرت بشرخ يقسمها إلى نصفين. بكت لأنها لم تكن صادقة مع نفسها، ولأنها فقدت لسنوات طوال متعة القيام بأمور عادية وجميلة إلى هذا الحد. تقول: «أصعب شيء في الدين هو رؤية نفسك من الخارج»، ولكي تخرج من الصراع بأقل كلفة ممكنة، حسمت الأمر: حجاب في الضيعة وسفور في المدينة.
ندى اليوم «حرّة»، رغم أن لباسها محافظ ومحتشم. تعيش لذة إطلاق شعرها في الهواء والشعور به. تستمتع بجماله. فهو قطعة فنية للنظر بتجرد، وليس للإغراء. هكذا صارت تفهم الدين. وهكذا تنظر إلى الله.
حسمت ليال صراعها الداخلي: «سأرتدي الحجاب عاجلاً أم آجلاً. هو واجب ديني». سألت في سرّها: «لمَ التأجيل؟ فقد لا يكون في مصلحتي. الأفضل أن أتعود عليه ويتعود علي الناس منذ اليوم، وغداً ينسون ولا يعود كل من يراني ينظر إلي كمن قام بخطيئة. فالغد سيكون أصعب، حين أصبح أكثر انخراطاً في المجتمع والحياة». توصلت ليال إلى قرارها. سترتدي الحجاب في رمضان. ففي هذا الشهر «تعبئة دينية» تجعل الأمر يبدو أكثر سهولة ويقضي على كل لحظات التردد التي تهاجمها من حين إلى آخر.
تشعر فرح بانتماء وغربة في آن. فالبيت الذي تنتمي إليه ينظر إلى الحجاب كأولوية دينية. وهذا يريحها. فحين ترتدي الحجاب، سترى الابتسامات على وجوه أهلها. ستسمع كلمة «مبروك» حتى من البقال وبائع الخضار. مشكلتها الحقيقية تكمن خارج هذا الوسط الاجتماعي. مشكلتها حيث تعمل. تبدو خائفة من هذه المواجهة، حتى أنها قرّرت أن تتحجب، وتنغلق على نفسها لمدة أسبوع، حتى تتعّود على «زيّها الجديد»، كما تقول. لا تزال غير قادرة على تحديد الحجاب. أهو زي أم واجب ديني. ربما هو واجب، لكنها تحوّله إلى زيّ في بعض الأحيان، حتى تنسجم مع نفسها الجديدة.
أما فرح، فما يضايقها في موضوع الحجاب هو شعورها بأنها ستتغير لا إرداياً. فالحجاب سيفرض عليها أن تكون هي نفسها، وأخرى في آن. جسدها لن يعود ملكها تتحكم به كيفما تريد ووقت تشاء، لن يكون عفوياً في حركتها مشياً وجلوساً وتحدثاً. عليها أن تحترم هذا الزي الديني، أن تليق به. لن تسلّم باليد على رجل. لن تقبِّل أصدقاءها. شعرت فرح بأنها تريد أن تركض هاربة حين قصدت محال الثياب لتنتقي زيها الجديد. «ارتبكت. هل هذه أنا!». أيقنت أنها لن تستطيع بعد اليوم أن تفتح خزانتها، وترتدي أي قميص مع أي بنطال بهذه السهولة. بدأت تقسم ثيابها لتوزعها، لأنها لم تعد بحاجة إليها بعد اليوم.
الصراع بين متطلبات الدين والدنيا أمر طبيعي لا شك، وخصوصاً حين يكون ميدانه جسد الفتاة الشرقية. لا مشكلة حين تكون الفتاة مقتنعة، لكن حين يمحو الحجاب خلفه فتاة غير مقتنعة، فإنه يبدو أكثر شفافية من السفور.


مجرّد شعور

كثيرة هي الأمور التي تختلف عمّا قبل الحجاب وعمّا بعده. كأن هذا المنديل الذي يلف شعر الرأس، بعيداً عن عيون الآخرين، يأسر الجسد بأكمله. حين ترتدي الفتاة الحجاب، قد تشعر بداية بأنها ترتدتي أطناناً من الثياب، أو أنها تلبس ما لا يلائم شخصيتها، لكنها مجبرة. قد تشعر بأنه لم يعد من حقها الاعتناء بجمالها، بدءاً من الأظافر وليس انتهاءً بالوجه. فاللباس هو جزء الفرائض الدينية الذي يهدف إلى عدم لفت النظر. أو تكون قد اختارت تجزيء القناعة. ربما تشعر بأن ليس من حقها كمحجبة أن ترقص، تغني، تواكب الموضة، أو تصرخ.