خليل صويلحسيبقى صوت «الترومبيت» ماثلاً في أذني الطفل العائد للتوّ من حفلة للكشّافة، وسوف يشعر لاحقاً بأننا «نحن الشباب لنا الغد ومجده المخلّد»، مجرد نشيد حماسي يردّدونه في كورال مدرسي. لكنّ لوثة الفن لن تفارق ذلك الطفل، الذي وجد نفسه في مناخ ثقافي مفتوح على كل التيارات.
كان جده لوالدته نصر الله طليع صاحب جريدة «النور» اللبنانية في ثلاثينيات القرن المنصرم، قبل أن يُنفى إلى مصر، ليصبح أحد كتّاب صحيفة «المقطّم». لكن حادثة اقتحام «المكتب الثاني» لبيت خاله سماح طليع، وحرق مكتبته (بين المفقودات رسائل من جبران خليل جبران)، نبّهته إلى خطورة العلاقة مع الكتاب، وأهمية أن تكون مبدعاً.
في الرابعة عشرة، قرر جهاد سعد أن يكون ممثلاً، فانخرط في فريق المسرح المدرسي في مدينته اللاذقية. لوثة الترحال التي ورثها عن والده الضابط، قادته إلى دروب ومدن مختلفة، بحثاً عن روح قلقة، لم تستقر عند حال. جرّب الكتابة والتمثيل والرسم، وانكبّ على قراءة كلاسيكيات الأدب العالمي بالفرنسية، فقد كانت رفوف مكتبة مدرسة «الفرنسيسكان»، التي كان أحد تلاميذها، تعج بأمهات الكتب.
في مطلع السبعينيات، سيحط الرحال في باريس لدراسة «هندسة العمارة»، لكنه لن يصمد طويلاً بسبب صعوبة العيش «عملت عتّالاً في محطة قطارات، وبائع صحف، وفي مصنع، ثم قررت العودة إلى سوريا». بعد فترة من الضياع الوجودي، عقد العزم إلى القاهرة. هناك، درس التمثيل في معهد الفنون المسرحية. وحين عاد إلى دمشق مرةً أخرى، لم يجد النص الذي يستهويه، فانكبّ على كتابة «كاليغولا» من وجهة نظر مختلفة، تضع احتياجات الخشبة والممثل في صلب اهتماماتها. وإذا به يحصد جائزة أفضل عرض في «أيام قرطاج المسرحية» (1986). هذه الجائزة وضعته أمام خيارات صعبة، فراح ينبش في كنوز المسرح العالمي، مستعيداً ذاكرته الأولى، فكان أن أنجز إلى اليوم 15 عرضاً، بينها «حكاية جيسون وميديا»، و«هجرة أنتيغون»، و«أوبرا كارمن»، و«جلجامش»، و«أواكس»، و«خارج السرب» عن نص لمحمد الماغوط.
كتب جهاد سعد نحو عشرين نصاً مسرحياً، لا تزال تنتظر الفرصة كي تتسلل إلى الخشبة: «أكتب بنوعٍ من الحمّى، وقد أنجز نصاً في ليلة واحدة» يقول. نصوص بالفصحى وأخرى بالعامية، تراوح بين فضاءات الأسئلة الوجودية الكبرى والأساطير، ومعضلات اللحظة الراهنة بكل أطيافها. نص «تياترو» على وجه التحديد، يلخّص سيرته المسرحية المعطّلة. هكذا، تحترق مكتبة رجل المسرح في نهاية العرض المقترح، في إشارة إلى موت المسرح. «الإحباطات المتلاحقة لم تمنعني من الكتابة. ما زلت أغذّي الأمل بأن يكون المسرح عصب الشارع الثقافي، لكن هذا الفضاء الحميم يعيش اليوم في غرفة الإنعاش». السير عكس التيار جوهر تجربة هذا المسرحي المغامر، الذي يسعى إلى تأصيل «مسرح معلّق على الهاوية». يشرح فكرته قائلاً «لم يدمّر المسرح أحداً أكثر من المسرحيين أنفسهم، وإلّا لماذا انفضّ السامر عن جنبات الخشبة. في نصي «تياترو»، أعالج فكرة انهيار المسرح على المسرح. ربما علينا كمسرحيين أن نعمل على هدم المسرح التقليدي وإعادة تشييده برؤية مغايرة».
لوهلة، سيعتقد من يجالس جهاد سعد بأنه كائن مضطرب، فهو يتكلم على الدوام بنبرة انفعالية، كمن يمثّل دوراً على الخشبة. يستحضر شحنة انفعالية عالية عند استعادته شريط حياته. بعد سلسلة مواعيد فاشلة، بسبب ارتباطه بتصوير عمل تلفزيوني بعنوان «بعد السقوط»، أخبرني أنه ينتظرنا بين الواحدة والثالثة في حانة شعبية في «باب شرقي». هناك، كان وسط خليط من الأجانب، يتكلم معهم بالفرنسية تارةً، وبالإنكليزية تارةً أخرى. تبرعت سائحة فرنسية بالتقاط صورة للممثل، كما شارك صاحب الحانة أبو جورج في الحديث.
في هذا الصخب، ارتجل جهاد سعد جانباً من سيرته، مفضّلاً صفة «المغامر» على ما عداها. قبل سنوات، طرح فكرة جنونية على زوجته المصرية بأن يسافرا إلى مصر على طريقة الرحّالة. هزّت رفيقة دربه رأسها بالموافقة، في لحظة جنون مماثلة. هكذا عبرا الجنوب السوري إلى الأردن ثم إلى سيناء على دراجة هوائية، واختلطا بالبدو، وتعرّفا إلى نمط عيشهم. رحلة انتهت بعد عشرين يوماً، لكنها تركت وشماً في روحه «كيف تعيش عزلة ورحابة الصحراء»، ويضيف «لا أستطيع أن أكون شخصاً آخر. روحي منهوبة للوجع والمغامرة».
يعترف جهاد سعد بأن مشاركاته التلفزيونية، أتت من باب «أكل العيش»، حتى إنّه لم يكن يقتني جهاز تلفزيون في بيته، لكنه اضطر أخيراً إلى إحضار جهاز لمشاهدة أدواره على الشاشة. لم ينافس أحداً على أدوار بطولة، بل ذهب إلى تجسيد شخصيات لها قلقها الخاص مثل «عمر الخيّام» ، و«لورانس العرب»، و«جبران خليل جبران». كما شارك هذا الموسم في عملين نوعيّين هما «سقوط الخلافة» عن نص ليسري الجندي وإخراج باسل الخطيب، و«السائرون نياماً» مع المخرج محمد فاضل.
يُخرج من حقيبته رزمة أوراق، هي أفكار مسرحيات، ومقاطع غير مكتملة من روايات وملاحظات. يقول «أكتب على الدوام، ولا أعلم ما هو مصير هذه النصوص». ويتذكّر أنّه خلال وجوده في القاهرة أيام الدراسة، كان يجلس مرةً في مقهى «ريش»، وقد صرف ثلاث ساعات متواصلة يكتب رسالة إلى حبيبته: «حين أفكّر ماذا أنجزت إلى اليوم، أكتشف أنّه قبض ريح. لا جدوى مما نكتبه. أرغب أن يشتمني مسؤول ثقافي تجاه ما أصنع. صراحةً أشعر بعبث ولا جدوى الإبداع في عصر يلفظ الثقافة خارجاً لمصلحة العابر والهش والمستهلك». يصمت قليلاً، ثم يقول بنبرة مسرحية مجروحة: «حياتي أخطر ما أنجزته كفنان، لكنني لن أتخلى عن مشروعي المسرحي مهما كان الثمن مكلفاً».
لا مسرح من دون قلق. عبارة أساسية في تجربة صاحب «إلكترا»، التجربة التي كثيراً ما أثارت ردود أفعال متناقضة، لكن جهاد سعد يجد في هذا القلق نوعاً من الطمأنينة الداخلية «أعيش سراباً، وتجريداً عالياً لالتقاط لحظة عصيّة، كي لا نسبح في النهر مرتين». نغادره مع عبارة أخرى، أرادها أن تكون حاسمة «أكتب تاريخ التعب».


5 تواريخ

1953
الولادة في اللاذقية لأب سوري وأم لبنانية

1980
أنهى دراسته المسرحية في معهد الفنون المسرحية في القاهرة

1986
جائزة أفضل عرض مسرحي في «أيام قرطاج المسرحية»

2002
أدّى دور «عمر الخيّام» في التلفزيون

2010
يُعدّ لإخراج عرض مسرحي عن نص من تأليفه بعنوان «تياترو»