كثيرةٌ هي الأمور التي لا نجرؤ على انتقادها لأنّها مكرّسة. ولأنّنا نخشى أن نكتشف بعد حين أننا كنّا على خطأ. في موضوع اغتيال الحريري: واحدٌ من الانطباعات الأولى كان أن المستفيد الأكبر من قتله هم الأميركيّون. فقد كان صديق فرنسا الشيراكيّة ـــــ الديغوليّة وجاء بالقمّة الفرنكوفونيّة إلى بيروت وأعاد النفوذ الفرنسي إلى الشرق الأوسط أقوى ممّا كان في عهود الانتداب.
والحريري لم يكن جسراً للحروب بل همزة لوصل ما انقطع. وسياسته المعارضة لإسرائيل ليست من النوع الذي يخدم أهداف إسرائيل، فإسرائيل تفضّل المسعورين والموتورين لأنّهم يعزّزون صورتها كضحيّة. والحريري تحمّل واستوعب مستحيلات السياسة السوريّة وابتزازات السياسة اللبنانية ممّا لم يكن دوماً يُسهّل تحقيق الأهداف الأميركيّة، ولو كان في الحكم صيف 2006، على سبيل المثال، لما اكتفى بالتفرّج على الهجمة الإسرائيليّة حتّى لو كان ضمناً قد ضاق ذرعاً بـ«حزب الله» أكثر من جميع الذين ضاقوا.
مجرّد انطباع مضحك ولكنّه وَرَدَ في الذهن. وفي كل الأحوال لا يعفي الضالعين اللبنانيّين والمسؤوليّة السوريّة من الاشتباه والاتهام. لا يعفي أحداً. فالأصابع الأميركيّة العملاقة تستطيع تحريك الأرض والسماء وهي توهمهما بأنهما تتحرّكان من تلقائهما. وثمّة عقلاء يرتابون أيضاً بدورٍ أميركيّ ما في حوادث 11 أيلول 2001 نفسها.
اعتبرتُ منذ 1975 أن فرنكوفونيّة لبنان هي أحد أسباب البغض الأميركي له وأن كاثوليكيّة فرنكوفونيّته الغالبة هي، لا تعدديّته فقط، سبب الكراهية الإسرائيليّة له رغم ما يقال عن ودّ يهودي ـــــ ماروني من أيّام البطريرك عريضة وعن تحالفات كتائبيّة ـــــ صهيونيّة هزليّة. لو لم يسحب بشير الجميّل يده من يد مناحيم بيغن، بعدما أصبح رئيساً للبنان، لما رفعت عنه إسرائيل الغطاء سامحةً بقتله.
■ ■ ■
ما لنا ولهذا، كلامٌ سيثير الهزء. فضلاً عن أن الظنّ بالأميركيّين فرصة إضافيّة لتملّص سائر الفاعلين. لو كنّا مجتمعاً طبيعيّاً لما لجأنا في الأساس إلى محكمة دوليّة بل كنّا احتمينا بقضائنا ثقةً منّا بأنّه لن يهاب إرهاباً. لكن قضاءنا هو نحن، ونحن مَن نحن. وصرنا أسوأ ممّا نحن. وسنصير أسوأ بإذن الله. ولا تصطلح الأزمان إلّا بعد تمامها.
■ ■ ■
... وتختلط التقدميّة بالتخلّف والماركسيّة بالتعصّب المذهبي والثوريّة بالنرجسيّة البلهاء. والحداثة بالحزبيّة والحاضر بماضٍ لا وجود له. وأسوأ الفزّاعات تلك الدينيّة، لأنّها دمويّة مهما ادّعَتْ الروحانيّة ولأنّها ضخّت سمومها في كل وسائل التعبير وفي كل أشكال العادات والتقاليد.
ينطبق هذا على الشرق كما ينطبق على الغرب. المكرّسات هي العقبة الكبرى أمام التقدّم. هي حجرُ القبرِ الأكبر. والمكرّساتُ سواء أكانت دينيّة أم «علمانيّة»، كلّها محرّمات مرعبات. ذاتَ يومٍ مرّ بول فاليري أمام مسرح باريسي يعرض «إلياذة» هوميروس فسأله صاحبه: هل تحبّه؟ فأجابه فاليري: «وهل هناك قصاصٌ أشدّ من حضور هذه الملحمة؟». وقال فلوبير عن دانتي صاحب «الكوميديا الإلهيّة»: «أعتقد أن دانتي، شأنه شأن الكثير من التحف المكرّسة، لا يتجاسر المرء أمامه على القول إنه يزعجنا». والكاتب الفرنسي جول رونار عن شكسبير: «أعترف أوّلاً بأنّي لا أفهم شكسبير دائماً، وأعترف ثانياً بأنّي لا أحبّ شكسبير دائماً، وأعترف ثالثاً بأنّ شكسبير يزعجني دائماً». لا نريد إزعاجكم بذكرِ شتائم أقسى، ولا بالتجرأ على الأديان. كنّا نحلم بالوصول إلى مثلها في لغتنا وفي أقطارنا، ولم نعد نحلم. لم يعد المرجع طه حسين ولا إسماعيل أدهم ولا سلامة موسى ولا جبران ولا الريحاني ولا العلايلي ولا عمر فاخوري ولا أبو نواس ولا المعرّي. صار المرجع هو الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي وأصحاب السماحة (السماحة!؟) وأقرانهم من مستهلّي إطلالاتهم بالبسملة والحمدلة قبل الانطلاق في تأويلاتٍ مرعبة مضحكة وتسويغاتٍ مضحكة مرعبة وتهديدات لا تبقي رِجْلين واقفتين.
لو بُعث المتنبّي اليوم حيّاً لأُهدر دمه بتهمة ادّعاء النبوّة.
■ ■ ■
ما لنا ولهذا الجوّ. له أربابه. لكم أربابكم ولنا أربابنا. أربابكم فاضلون فوق البشر وأربابنا حوالينا أقرب قليلاً أبعد قليلاً والأفضل أن يظلّوا فوق متناول اليد، حتّى نظلّ قريبين مطمئنّين وجائعين. هذا الشيء الذي تجوع إليه النفس أكثر ما يكون وتسعى إليه كفاحاً يفوق القدرة، هل يكون في النهاية غير موجود؟
■ ■ ■
الجوّ مشحون. لا تخافوا. الجوّ مشحون، لا تصدّقوا. في الجوّ المشحون يغدو الصفاء فضيحة؟ لا يهمّكم. الجوّ المشحون صناعةُ الأعداء. لا تخافوا. دائماً حين لا يعود هناك اتّضاعٌ ولا خَفَر ولا إعطاءٌ لغريب، تُستعاب المحبّة. يعتذرُ اللطيفُ على لطفه والسميحُ يمسح جبينه خجلاً. يعتصمُ ضعيفُ القومِ بالزوايا المعتمة ويلوذ بغامضِ الكلام. حتّى محبوبه لا يدري به. ترتجف ضلوعه من البَرْد مع أنّ قلبه يحترق. الطيبةُ مصلوبةٌ على حرير نورها.
أخاف منّي عليكِ خوفَ الأمّ على وحيدها في الفلوات. لا كما يخاف المنفرد في غياهب الظلام بل كما يُخاف من أشداق العدم.
إنّه الجوّ المشحون. لا تخافي. هناك على الدوام جوّ مشحون. لا تخافي. سلي الغيوم العابرة، سلي الأيّام العابرة، سليني، لا تخافي.
اسرقي! الآن وقتها! اسرقي! هذه اللحظات المسروقة هي أجمل منكِ وأغلى ما ستعطيكِ إيّاه الحياة.
■ ■ ■
ليس هناك دورٌ أكبر من كتفَي صاحبه. حجمك على قدر دورك، والعكس. «على قَدْرِ أهل العزم» ليست كما كان يقول بعضنا تفسيراً للماء بالماء. حُسِد المتنبّي على شاعريّته بمقدار ما حُسد على كتفيه. ذلّه، ضعفه أمام الجاه والمال والسلطة لم يكن إلّا ردّ سخرية القَدَر على القَدَر ذاته. ردّ القدر على نفسه. استكبر القدر على المتنبّي حجمه فوازنه بذلك الضعف. لم تكتمل مع أحد لأن العيون لا ترحم. نعم العيون، وليصطفل مَن لا يعتقد بهذا التطيُّر. العيون، العين، قايين. العذول، تسمّيه الأغنية. لا أحد يستطيع تحديده. وقد يكون منك وفيك. ليس هناك دورٌ أكبر من صاحبه بل قانونٌ قهّار نقول له العدالة الخفيّة وهو في الواقع الصَغار الأحمق، الخوف الغبيّ السريّ من تألّهِ الإنسان، الحرصُ على قمعه، على تصغيره، على الاقتصاص من انفلات قامته خارج الإطار. الحياة نفسها كأنما تُعطى غصباً عن مَصدرها. الأحياءُ يحيون بأعجوبة. أعجوبة براءتهم، جهلهم، حسْن نيّتهم. ليس هناك دورٌ أكبر من صاحبه بل أدوارٌ أُعيقَتْ، أقدارٌ قوطعت، مواهبُ وطاقات قُصفَتْ في ريعان تحليقها. لا يَغرّنّكَ المعطي، اطلبْ أكثر. لا تقلْ نعمةُ كريم إلّا إذا رتعتَ فيها حتّى التخمة. والعطاء، أخذاً وعطاءً، لا يعرف التخمة. جرّب المستحيل. الحقْ المنغِّص إلى باب بيته. ولا تحمل هَمَّ الآخرين، الجيران والعشيرة، الآخرون ليسوا هم الجحيم كما قال ذاك، بل هم المَطْهَر. هم مَن ترمي عليهم المصائب المحتملة. تظنها لن تحصل لك بل لهم. إنّهم مَكبّ الكوارث. إذاً، كتفاكَ على قدر دورك، هات الآن صناعتك. انسَ ما قلناه عن العين والإعاقة. ذاتاً أنتَ ناسيهما وإلّا لما استطعتَ الإقلاع. أنتم حَمَلَةَ الجمال والسعادة مهبولون بعملكم حدّ نسيان الأكل وحدّ المرض بلا شفاء والشفاء بلا علاج. عالم آخر. ولو أنكم في الحقيقة مساكين الرحلة، ملوك أعيادها وسَحَرة أطفالها ومعشوقو بناتها ومقاعد البقاء محجوزة لكم بعد انتهائها، ورغم هذا سيحصل ما يحرمكم مواصلة الرحلة وستكمل هذه بدونكم.
دعني أُكمِل يا سيّد درويش، يا عاصي، يا أسمهان، يا عفيف رضوان، يا غابي إسكندر حدّاد، يا خليل روكز، يا فؤاد سليمان، دعوني أُكمل أيّها الذين ملأوا الدنيا أعراساً واختفوا من الحافلة، هذا في أوّل الطريق وذاك في منتصفها وذلك بعده أو قبله، دعوني أسألكم: هل أنتم مَن سئم وتوقّف، أو خانته ذاكرته وجُنّ، أو غاص في العتهِ فجأةً، وكرهَ مواصلةَ عطائه العجيب؟
■ ■ ■
المحكمة مَن ستحاكم؟ «حزب الله» وسوريا؟ إسرائيل وإيران؟ «القاعدة» وأميركا؟
ومَن سيحاكم قَتَلَة آلهتنا الحقيقيّين، ملوّني أيّامنا بالفرح، صانعي سعادتنا؟ مَن سيحاكم قاصفي أعمار طفولتنا ومواهبنا وبساطة عيشنا وروحنا؟ مَن سيحاكم الذين قتلوني كلّ لحظة منذ ولادتي؟.


«الإعجابُ بما لا نستطيعه»

خصّني الأستاذ عبد الكريم الناعم بمقال في جريدة «الثورة» السوريّة أعطاني فيه من محبّته ما لا أستحقّ. كان يعلّق على محاضرةٍ ألقيتُها قبل أعوام في الجامعة الأميركيّة ابتداءً لمؤتمرٍ عن قصيدة النثر. وممّا استوقفه قولي إن الأوزان المعروفة ستظلّ مرغوبة لأنّ في إيقاعاتها براعةً تنتزع الإعجاب، «وكم يحتاج الإنسان إلى الإعجاب بما لا يستطيعه شخصيّاً».
وتساءل: «تُرى، هل في هذا الإعجاب شيءٌ ينمّ عن تمنّيه بأنه كان يتمنّى لو كانت لديه تلك الموهبة؟».
بكل تأكيد كنتُ أتمنّى. ليتكَ، يا أستاذي، تعرف مقدار استمتاعي بهدير موسيقى المتنبّي وتدفّقها الفائق فيضَ تدفّقاتِ الطبيعة. أو، ولو بنسبة أقلّ، أحمد شوقي وحافظ إبراهيم والأخطل الصغير وسعيد عقل وامين نخلة وصلاح لبكي ويوسف غصوب وعمر أبو ريشة ونزار قبّاني ومحمود درويش... لا أتصوّر كتابة بلا خلفيّة موسيقية، لا قصيدة ولا غير قصيدة. النثرُ، أيّاً يكن شكله، هو عندي بحرٌ بين البحور، حدوده شواطئ مؤقتة. إنّ عجزي عن الالتزام بأوزان خارجيّة صارمة هو عجزٌ كيانيّ وليس موقفاً عقائديّاً.
منذ الصفوف التكميليّة، حيث تعلّمنا العَروض، كانت محاولاتي في النظم تبوء حتماً بموجةِ ضحك من نفسي. ولازمني هذا. كنتُ أشعر لدى خوضي النظم بأني أُمثّل وأنّ العمليّة كوميديا. ربّما لو درستُ التلحين لما شعرتُ وأنا أُلحّن بمثل هذه الغربة، لأن اللغة الموسيقيّة لغة قائمة بنفسها وبرموزها ونتائجها وليست مجرّد تقنيّة في قلب اللغة ذاتها. ليست مسرحاً مستعاراً. نثري هو شعري بمعنى أنه شخصيّتي لا هوايتي. نثري هو إيقاعاتي البديلة. ربّما هذا كان ظاهراً في البداية إلّا أنه بات أكثر وضوحاً في كتاباتي الأخيرة حيث لم تنعدم الحدود بين نثرٍ وشعر فحسب بل لاح انعدامها أحياناً بين نثرٍ وقصائد نثر.
أشكرُ لكَ أيّها الأستاذ سخاءَ عاطفتك وجميلَ روحك والفرصة التي أتحتَها لي.