في ظلّ الأزمة العقارية الخانقة، يحتار سكان «حي الوطى» في بيروت إلى أين سيذهبون. فالحي الذي يسكنونه منذ عشرات السنين، تباع عقاراته تباعاً. التعويضات التي تُدفع لا يمكن أن تُشترى بها غرفتان بائستان حتّى، رغم أنّها تفوق ما يحق لهم قانوناً. أما ما هي المشاريع التي ستحل مكان الحي؟ فمجهولة، بين موقف سيارات أو مشروع سكني ضخم أو مرفق سياحي
محمد محسن
المفترقات يشبه بعضها بعضاً. أما الطرق فكلّها ضيّقة. تختلط الحصى بعروق الورد على جوانب تلك الطرق. سقوف البيوت كلّها متشابهة أيضاً. السقوف ضعيفة وتعاني من النش. بعضها حديدي، تثبّته دواليب وأحجار و«كراكيب» في وجه الهواء الآتي من صوب البحر.
تحتها يسكن فقراء منذ 30 أو 40 عاماً. هنا، في «حي الوطى» أو «حي النقابة»، قرب نقابة المهندسين في بيروت، يعيش كثير من مستأجري المنازل في وضع ضبابي. لا يعرفون متى سيُطلب إليهم إخلاء بيوتهم، لمصلحة شركة اشترت العقار الذي يسكنون فيه، وتريد هدم هذه البيوت.
بيوت مهما كانت متواضعة يكفي سكّانها أنها تؤويهم. بيوت بغالبيتها الساحقة صغيرة، غرفتان ومطبخ. حسنتها الوحيدة أنها تقع ضمن الخريطة الإدارية للعاصمة بيروت، حيث خدمات المياه والكهرباء مؤمّنة دائماً.
منذ أكثر من شهر، وصل خبر إلى سكان الحي يفيد أن بيوتهم المستأجرة قد بيعت. فالحيّ على صغر حجمه، مقسّم إلى عقارات تتوزّع بين مالكين باعوها، وعقارات ما زال مالكوها يفاوضون المشتري على سعرها. لم يطل الوقت، حتى هلّ هلال الوسطاء بين الشركة المشترية والسكّان. حالياً، تجري محاولات لإقناع هؤلاء بقبول تعويضات مالية أكبر من تلك التي يفرضها القانون على صاحب العقار، إذا ما أراد أن يُخرج المستأجر من منزله.
لكن ذلك لا يبدو عادلاً في نظر سكان كثيرين، معظمهم من العائلات الفقيرة. فالتعويضات المعروضة لا تؤمن منزلاً بديلاً حتى في أكثر المناطق فقراً. وافق البعض ممن لديه بدائل سكنية في قرى الجبل أو الجنوب، فتقاضى تعويضه وهجر غرفته أو بيته لقاء مبالغ راوحت بين 15 و20 ألف دولار للغرفة.
يسمع زائر الحي قصصاً كثيرة. اللافت أن الجميع يشترط إخفاء اسمه، فالكل حريص على مصلحته. يحتاط السكان من نقمة مفترضة من جانب الشركة التي اشترت العقار، ما قد يخفض مبلغ بدل إخلاء المنزل.
الأمور لا يمكن أن تُحلّ بالقوة والشركة تعي هذا الأمر تماماً
العثور على الوسطاء صعب، والحديث معهم أصعب، لكن ذلك لا يمنع من تفحّص أجوائهم. يتحدثون بدبلوماسية، وجلّ ما يمكن إعطاؤك إيّاه هو أن «الأمور تسير على ما يرام. لا داعي إلى الحديث عن الموضوع، والناس عم تضغط لتاخد حقها وحبّة مسك».
بوضوح أكثر: «المستأجرون بإمكانهم أن يدخلوا مع الشركة في لعبة المحاكم، لكن ذلك سيؤذيهم، فليقبضوا أموالهم التي تُعرض الآن، وإلا فسيخرجون من دون تقاضي شيء يذكر»، يقول أحد متابعي الملف من دائرة الوسيط. ويؤكد الرجل أن الأمور «لا يمكن أن تحلّ بالقوة. الشركة تعي هذا الأمر تماماً، وهي أصلاً تريد الانتهاء سريعاً من الموضوع، لذا تساير في زيادة المبالغ المدفوعة». لكنّ عدداً من السكان يؤكدون خلافاً لما تنقله مصادر الوسيط «لم يأتنا أيّ عرض مشجّع حتى الآن. بيتي غرفتان، 18 ألف دولار ثمناً للغرفة يُعدّ أمراً مجحفاً، لا يمكننا شراء شقة بـ40 ألف دولار» يقول أحد المستأجرين. لكن القانون يعطيهم مبلغاً أقل، لماذا يرفضون المبلغ الحالي؟ «مرحبا قانون. الأمور هنا يجب أن تُحلّ بالتراضي.
القانون ليس عادلاً أبداً» يقول. أحد السكان يطرح صيغته للحل: يقال إن المشتري سيبني بنايات ضخمة مكان هذه البيوت.
فليعطنا بدلاً لإيجار منازل ريثما ينهي البناء، وحينها يعطي لكل مستأجر شقّة في البنايات الجديدة، إذا أراد أن نخلي البيوت. الجميع في الحي يؤكدون أن مشتري العقارات هو رجل الأعمال بهيج أبو حمزة. اسم الرجل وعلاقته اللصيقة بالنائب وليد جنبلاط، إضافةً إلى وضع المنطقة الطائفي المختلط، تفتح جميعها الباب أمام تكهّنات كثيرة بشأن سبب شراء عقارات الحي. لا بل إن «فوبيا» الفرز الطائفي جعلت البعض يرجّح أن يكون النائب وليد جنبلاط شخصياً هو من يقف خلف قرار الشراء «لجعل المنطقة لطائفته فقط، فالحي هنا فيه سنّة وشيعة»، كما يشيع على أكثر من لسان. في هذا الحي الفقير، «بات جنبلاط ليالي كثيرة أيام الحرب، ربما يريد اليوم استعادة ذكرياته»، يقول أحد السكّان ممازحاً.
«بيت مقابل بيت، ومفتاح مقابل مفتاح، أو تعويض يسمح لنا بشراء بيت». هذه هي معادلة أحد المستأجرين، ليسلّم بيته للشركة.
يستند إلى أحداث مشابهة حصلت في العقدين الأخيرين، وخصوصاً في منطقة الجناح القريبة من حي الوطى «تقاضى الأهالي المبالغ التي أرادوها، ولا أحد أفضل من أحد. نسكن الحي منذ 30 عاماً، أيعقل أن نُخرج بهذا الظلم؟».
حتى الآن، الواضح أن الحلول تسير وفقاً للطريقة العشائرية على قاعدة «أهلية بمحليّة»، ومن دون أي جذور سياسية للمسألة. وبحسب ما يقول أحد المقربين من أبو حمزة، والمتابع ميدانياً للمشروع فإن «الأحزاب في المنطقة، الاشتراكي وحزب الله وحركة أمل، تدعم الحل على قاعدة إرضاء الجميع، لكن بعض المستأجرين يطلبون مبالغ خيالية، مع أن الشركة تدفع أكثر مما يقرّه القانون. ليس في الأمر بُعد طائفي ولا واحد بالمليار. المستأجرون دروز وشيعة، والمبالغ تدفع للجميع». من جهة أخرى، يتّجه السكان بجميع أطيافهم إلى إنشاء لجنة مشتركة تتحدّث باسمهم، وهم بانتظار تحديد موعد لهم مع قيادي رفيع في حزب الله ورئيس مجلس النواب نبيه بري، لكنّهم لم يتلقّوا أيّ رد حتى اليوم.