يظهر لبنان في مخيّلة المصريّين العاطلين من العمل باعتباره «سويسرا الشرق»، لكن حلم الوصول إليه لا يتحقق إلا من خلال ركوب مخاطر جمّة وعمليات تهريب تجري عبر أربعة مراكز حدودية في الأردن وسوريا ولبنان
أسامة القادري
«إلى مدينة الأحلام» سنأخذكم، هذا ما يصوّره وسطاء لشباب عاطلين من العمل في مصر، ومعظمهم من متخرّجي الجامعات. أما المدينة المقصودة فهي بيروت، أو أي بلدة لبنانية، لكن بائع الوهم لا يقول لطريدته ما الذي ينتظرها، أو ماذا ممكن أن تفعل الأقدار، في رحلة الهروب من واقع البطالة.
تنطلق حافلات نقل الركاب من «أمّ الدنيا» الى الأردن كمحطة، ثم الى سوريا ومنها الى بيروت «سويسرا الشرق».
لا ينفي حسني محمد «ديبلوم هندسة مدنية»، مشقّة رحلته و«المهانة» حتى يعمل «ناطوراً» لأحد الأبنية في محيط شتورا. ترك مصر قبل خمسة أشهر بعدما فشلت جميع محاولاته لإيجاد عمل في اختصاصه. يقول إنه حصل على رقم هاتف المهرّب «أبو حنفي» القاطن في القاهرة من شاب في منطقته أبو قرقاص، ويضيف بلهجته الصعيدية، وهو يمسح عن جبينه علامات الندم، «الإيد البطّالة نجسة».
ترك حسني «أبو قرقاص» وتوجه إلى القاهرة «وبعد عدة مكالمات ومواعيد متفاوتة ومتنقلة، استطعت مقابلة أبو حسني بعدما اطمأن إلى أنني عازم على الهرب للعمل في بيروت».
الشرط الأول الذي تحدث عنه الوسيط هو حصول حسني على جواز سفر يورد فيه صفته باعتباره تاجراً أو صاحب اختصاص مطلوب في الأردن، «ومقابل هذه الصفة وتهريبي الى بيروت، طلب مني أن أؤمن 5 آلاف دولار»، وعلى هذا الأساس عاد حسني الى دياره وهو يفكر بالمبلغ الضخم المطلوب، «آخذها يمين وجيبها شمال، منين أجيب 12 ألف جنيه؟»، ثم عمد الى بيع «جاموسة وفدّانين من الأراضي» التي يمتلكها ذووه. الوسيط أمّن لحسني جواز سفر دوّن عليه أنه «خبير مبيعات»، وحدد له يوماً لأن ينطلق بحافلة نقل من موقف في العاصمة المصرية الى الأردن، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن جزءاً بسيطاً من المبلغ المطلوب يحتفظ به «طالب الهروب»، ويدفعه لمندوب المهربين عند الحدود السورية ـــــ اللبنانية لحظة تسليمه الى المهرب اللبناني.
يروي حسني «قبل أن نصعد إلى الحافلة، وزّعت عليّ وعلى نحو 35 شاباً آخرين جوازات السفر. دخلنا الأردن بطريقة طبيعية، عبر الحدود الرسمية». «العميل» الأردني أحضر للشباب المصريين حافلة تقلّهم من الحدود الأردنية المصرية الى الحدود الأردنية السورية. تلك الحافلة لم تكن إلا «شاحنة براد كبيرة، وُضعنا فيها لتنقلنا الى داخل الأراضي السورية». بعد الشاحنة، انتقل الركاب إلى باص كبير نقلهم الى إحدى القرى الحدودية بين لبنان وسوريا، قرية «شبه مهجورة» بات فيها الشبان ليلتين، ودفع كل منهم 40 دولاراً ثمن المأكل والمشرب والمنامة، ويقول حسني «لما كان أحدنا يسأل عن نوع الطعام أو اسمه، أو «عن أغطية» لاتقاء البرد القارس، كانت الشتائم تنهمر عليه.
يُنقل الشبّان الى زريبة بقر، عند أطراف قرية بقاعية متاخمة للحدود السوريّة
عند قدوم المهرب اللبناني، «طلب المهرّب السوري مبلغاً من المال ليعطينا جوازات السفر بعدما أخذها منا عند العبور من الأردن»، ثم عمد المهرب اللبناني الى تقسيم الشبان «الى ثلاث مجموعات»، تُنقل كل مجموعة بعد حوالى ثلاث ساعات عن انطلاق المجموعة التي سبقتها، رافقنا فيها شخص غير المهرب. انتقلنا مشياً على الأقدام من المكان الذي نمنا فيه الى منطقة جبلية وصخرية، ما بكفّي التعب، إنما البرد عمري ما حسّيت بيه، كاد قلبي يوقف»، وبعد مشي حوالى ساعتين، وجدوا باصاً لنقل الركاب في انتظارهم، نقلهم أيضاً الى زريبة بقر، عند أطراف قرية بقاعية متاخمة للحدود السورية، «وجدنا شباب المجموعة الأولى فيها، بعدها نُقلنا مجموعات مصغّرة، كنت مع مجموعة من خمسة أفراد». يحكي حسني بتأفف عن الطريقة التي نقل فيها من منطقة البقاع الى بيروت، تخطّياً لحواجز القوى الأمنية والعسكرية عند نقطة ضهر البيدر، «جاء المهرّب وطلب من اثنين أن يركبا في شنطة «الصندوق»، ومن ثلاثة أن يناموا مكان الفرشة الخلفيّة للسيارة التي فكّها المهرّب، انبطحنا رأس وكعب، وغطّانا بشرشف ليجلس أبناؤه علينا، فيما زوجته تجلس في المقعد الأمامي». بعد نصف ساعة، جلسنا جميعنا مكان المقعد الخلفي حتى وصلنا الى بيروت، وهنا جرى توزيعنا بناءً على العناوين التي أعطانا إياها الوسيط في مصر.
ما رواه العامل المصري، لم يناف رواية المهرب اللبناني وليد، الذي استقال من مهنته قبل مدة. يقول إن تهريب المصريين يعتمد على شبكة علاقات مع «سماسرة» في مصر والأردن وسوريا. العميل المصري يؤمن «لنا البضاعة، كل أسبوع نحو 150 شخصاً»، وهو الذي يحدّد السعر، عن كل «راس»، يفنّد الرجل الأكلاف التي يدفعها المهرب عند الحدود التي تقطع تهريباً، المهرب يتفق مع الجمارك الأردنية على تهريب مجموعة كبيرة من المصريين، يوضعون في شاحنات مبرّدة مقفلة، مخصصة لنقل الخضر من الأردن الى لبنان، «عن كل راس يدفع للجمارك الأردنية 750 دولاراً، ويدفع للجمارك السورية 500 دولار، ولسائق الشاحنة 100 دولار، عدا عن دفع 20 دولاراً عن كل واحد الى سائق الحافلة التي تنقلهم من الحدود السورية الأردنية الى النقطة المتاخمة للحدود اللبنانية، ويدفع للمهرب اللبناني عن كل شخص 300 دولار، يتم إدخالهم الى لبنان عن طريق السير على الأقدام مسافة تصل أحياناً الى 6 كلم، عن طريق وادي عنجر، ومنطقة كفر زبد المتاخمة للحدود السورية في الجهة الشمالية الشرقية. أما من الجهة الجنوبية الشرقية، في ينطا وحلوا ومنطقة أبو الأسود، وعبر خراج بلدتي الصويرة والمنارة، وفي بلدة جديدة يابوس السورية «تخزّن البضاعة في إحدى المزارع عند أطراف البلدة»، الى أن تنقل بعد التأكد من سلامة الطريق من الدوريات». يفصح وليد أن المهرب كثيراً ما يبلغ القوى الأمنية عن عملية تهريب، «هذه شغلة طبيعية، حتى تستمر العلاقة والثقة بين المهرب ورجل الأمن اللي بمشّي الأمور وبأمّن الطريق»، يضيف وليد إن المهربين يتسابقون مع القوى الأمنية كلما اكتشفت الأخيرة طرقهم في عمليات التهريب، «الآن المهرب يستعين بزوجته وأفراد أسرته في عملية التهريب إذا كان الطريق مكركب»، ويشير إلى أن البعض لا يزالون ينقلون العمال من البقاع إلى بيروت في شاحنات الخضر، «يضعون 15 شخصاً فيها، وفوقهم صناديق الخضر».


في انتظار اتفاقيّة تنظّم العمالة

تحدثت «الأخبار» إلى مسؤول أمني متابع لمشكلة تهريب العمال العرب والأجانب إلى لبنان، فقال إن عمليات تهريب المصريين الى لبنان تحري عبر ثلاث مراحل. ويستند المسؤول في كلامه «إلى التحقيقات، ومشاهدتنا للتأشيرات على جواز السفر، التي تكون في حوزة أيّ من العمال المُهَرَّبين الذي يجري توقيفه لدخوله خلسة إلى لبنان، تدل على أنه خرج من بلاده الى الأردن بطريقة شرعية وقانونية، فيما نرى تأشيرة دخوله الى الأردن، ولا وجود لتأشيرة خروجه منها عند الحدود السورية الأردنية، مع العلم بأنه لا عوائق في دخول المصري الى سوريا، وهذا ما يدل على أن هؤلاء العمال يتعرضون لعملية ابتزاز واستغفال من المهربين والسماسرة»، وأشار الى أن المصري لا تطلب منه السلطات السورية إلا أن يحدد مكان إقامته وعمله، لافتاً الى أن دخول المصريين الى لبنان بطريقة شرعية أمر لا يزال معقداً وذلك بناءً على الاتفاقيات الموقعة بين البلدين بشأن اليد العاملة. وأفصح المسؤول أنه ستوقّع في الأشهر المقبلة اتفاقية جديدة، تسمح بدخول اللبناني الى مصر من دون «فيزا» مسبقة، مقابل أن يُسمح للمصري بدخول الأراضي اللبنانية دون تعقيد كسائح.