بعد البنزين والخبز، ها هي أسعار الخضار واللحوم وسائر المواد الغذائية ترتفع بطريقة جنونية. وحدها القدرة المعيشية للناس تنخفض، أما طرابلس التي كانت ملاذ الفقراء، فهي الأخرى تخترع أساليب للتأقلم
طرابلس ــ عبد الكافي الصمد
«بتسمحلي إتفرج عالبندورة؟»، يقولها أحد الزبائن بسخرية لافتة، لبائع خضار بالمفرق في السوق المحاذي لبولفار نهر أبو علي في طرابلس، بعدما أبلغه البائع أن سعر الكيلو الواحد من «الفاكهة الحمراء» يراوح بين 2000 ليرة و4000 ليرة، وذلك وفق جودة الصنف ونوعيته.
موجة ارتفاع أسعار السلع الرئيسية، وموجة الغلاء التي اجتاحت الأسواق في الآونة الأخيرة، دفعتا الكثير من أصحاب الإمكانات المحدودة في طرابلس إلى مواجهتها بأساليب مختلفة، كلٌّ حسب إمكاناته المادية، ولكن اللافت أن الكوميديا السوداء كانت إحداها، في مدينة لطالما اشتهرت بلقب «أم الفقير»، لكونها وفرت دائماً حلولاً للفقراء من أجل العيش فيها مع أنها مدينة كبيرة.
سيدات وربّات منازل يتوافدن إلى السوق المذكور ابتداءً من الساعة التاسعة صباحاً تقريباً، هنّ معظم زبائن ذلك السوق في هذا الوقت من كل يوم. هكذا، تراهن يجلن بين البسطات ذهاباً وإياباً مرات عدة، حائرات، مقارنات، قبل أن يشترين ما يحتجن إليه، أو الحد الأدنى منه، لإعداد طبخة ما لأفراد العائلة.
سوق الفقراء يجذب الى أبناء طرابلس فقراء المناطق المحيطة
وقاصدات هذا السوق يأتين إليه من الأحياء المجاورة في باب التبانة والقبة وباب الحديد والأسواق القديمة وأبي سمراء وغيرها، وهي مناطق تعدّ الأكثر فقراً وشعبية في طرابلس، لكن هناك أخريات يتزايد عددهن، يفدن من مناطق بعيدة كزغرتا والضنية والمنية. فالفقر والعوز لا يعرفان أرضاً ولا ديناً. علامات ضيق الحال تدلّ عليهن بوضوح، وخصوصاً عندما تقول إحداهنّ لأحد الباعة: «إذا بتريد بدي بألفين ليرة بطاطا»، وعندما يوضح لها البائع أنّ سعر 2 كيلو بطاطا هو 2500 ليرة، ترد بارتباك واضح: «ما معي إلا ألفين، لأنو بدي إترك 500 ليرة حتى إدفعها أجرة التاكسي!».
في تلك الأحياء لا تزال أجرة السرفيس إلى المناطق المجاورة 500 ليرة فقط، لدرجة أن فئات واسعة من المواطنين، كالطلاب مثلاً، يتكبدون المشي تحت المطر أحياناً، وفي شوارع تطوف عادةً بمياه الشتاء لضيق أو انسداد مجاريها، لمجرد الوصول من منازلهم إلى مواقف الـ«500» تحت القلعة، في محيط نهر أبو علي، والانتقال منها إلى فروع الجامعة اللبنانية في القبة، لأن تسعيرة الراكب من المناطق الأخرى هي ألف ليرة وما فوق.
بسطات الخضار والفواكه المنتشرة في المكان بكثرة وفوضى، تكشف جانباً من أوجه الفقر الموجودة في المدينة. هنا يجد المرء فوق عشرات البسطات سلعاً زراعية نصف تالفة كالخيار والكوسى والباذنجان والبطاطا وغيرها، تباع بنصف أو ربع السعر تقريباً، إلى جانب بسطات لبيع الأحذية والألبسة القديمة (البالة)، واللحوم المثلجة، ومواد التنظيف المقلدة والخردوات على أنواعها.
وسط ضجيج السيارات وصرخات الباعة تساوم امرأة صاحب إحدى البسطات على سعر كيلو الملفوف، يوضح لها أن ثمنه 750 ليرة، تسأله: «هل تبيعه بـ500 ليرة؟»، يرد عليها بتأفف: «ما بيوفي معي يا خالتي». بعد جولات من التفاوض والمساومة يتفق الطرفان على تسوية: 5 كيلو بسعر 2000 ليرة. يبدأ البائع بتوضيب الملفوف في كيس نايلون شفاف، في الوقت الذي تتدخل فيه امرأة أخرى بجانبهما وتعلق: «الملفوف رخيص بس الحشوة غالية، شي مش معقول سعر اللحمة هالأيام»، فترد عليها الأولى وهي تناول البائع المبلغ: «بندبرها بلا لحمة، حشوة الرز لوحدها من شو بتشكي!؟»، قبل أن تقبض على كيس الملفوف بيمينها وتمضي وهي تردد بصوت عال: «الله يعين الفقير بهالبلد».
في المقلب الآخر من السوق يدور سجال من نوع آخر بين عدد من الزبائن وأحد الباعة، الذي هو من بين قلة في السوق «بسّط» بندورة فوق «طبليته». «بقديش الحمرا يا معلم؟»، يسأله أحدهم، فيرد: «هيدي بألفين، وهيدي بتلاتة، شو بتأمر؟»، مشيراً إلى نوعين من البندورة عنده، يجاوبه الزبون بنبرة: «يا لطيف شو هالغلا، ليش نحن بسويسرا؟»، فيقول له البائع وهو يرسم على شفتيه ابتسامة صفراء ساخرة: «لا نحن مش بسويسرا نحن بلبنان، ليش ببلاد الأجانب عايشين أحسن منّا؟ فشر».