العاشرة صباح أمس، وبعد تأخير ساعة، لاح في أفق مرفأ مدينة الميناء شراع سفينة فينيقيا بلونيه الأبيض والبنفسجي، مقترباً من الشاطئ، وسمع صوت صفارتها على وقع هتاف الأهالي الذين استقبلوها ملوّحين بالأعلام اللبنانية
عبد الكافي الصمد
لم يمض وقت طويل حتى كانت سفينة فينيقيا تجتاز كاسر الموج وتدخل حوض مرفأ مدينة الميناء، يواكبها عدد من قوارب الصيد والنزهة التي خرجت إلى عرض البحر لاستقبالها، وعلى متنها إعلاميون وسط طقس حار، بينما كان مَن على متنها يلوّحون لمستقبليهم بفرح واضح.
قليلاً، ثم ترسو السفينة قرب رصيف خشبي اصطفّ عليه العشرات، بعد أن يقوم ناشطون في الإنقاذ البحري بمساعدتها على ذلك، قبل أن يصعد على متنها وفد لجنة الاستقبال والعديد من الفضوليين. يسأل أحدهم وهو يشير إلى أعضاء اللجنة: «هول هنّي الفينيقيين؟»، فيردّ الآخر: «لأ، الفينيقيين أجانب، هلق بيطلعوا وبتشوفن!».
في هذا الوقت، كان أحفاد الفينيقيين ومنهم عريف الحفل يصيح في الميكروفون «نحن الفينيقيين، كنّا أسياد البحر، وها نحن نعود أسياده! أهلاً وسهلاً بفينيقيا في مدينة تريبوليس». ثم تأخذه الحماسة فيهتف «يا ريت فينا نرجع لأيام الفينيقيين، هيك بنرتاح من السياسيين!». العرّيف تابع كلامه بدعوته من يعرف السباحة للغطس في البحر وإزالة العبوات البلاستيكية والأوساخ والأسماك النافقة الطافية على سطح الماء، «حتى ما نتجرّص أمام الأجانب».
دقائق قليلة، ثم يخرج طاقم السفينة: من سحنتهم البيضاء وشعرهم الأشقر يتضح أنهم فعلاً أجانب غربيون. يلوّحون بأيديهم للمواطنين على وقع موسيقى فرقة الزفة. تدبّ الحماسة في بعض من صعدوا إلى متن السفينة فيبدأون بالرقص، ثم يشدّون البحارة لمشاركتهم «الحفلة»، ومن بينهم المرأة الوحيدة ضمن الطاقم؛ ومع أنها لا تبدو للوهلة الأولى تحسن الرقص الشرقي، إلا أن التهييص وتصفيق الحاضرين دفعها إلى المشاركة.
بعد ذلك يبدأ الاستقبال الرسمي، فيتم إبعاد المواطنين عن الرصيف الخشبي، ثم تتقدم فرقة الزفة الموكب وصولاً إلى الشاطئ، حيث طوقت أعناق الطاقم عقود من الورود، وعقدت حلقات الدبكة والرقص شارك فيها أعضاء الطاقم بحماسة، مستخدمين السيف والترس، فضلاً عن تجاوبهم مع مواطنين أرادوا أخذ صور تذكارية معهم، قبل أن يتوجهوا إلى بلدية الميناء، حيث أقيم لهم احتفال تكريمي.
لكن، ما هي قصة السفينة حتى تلقى هذا الاهتمام؟ الجامعة الثقافية اللبنانية في العالم، إحدى الجهات التي رعت مجيء السفينة إلى لبنان، أشارت على لسان رئيس لجنتها الاقتصادية أنطوان منسّى إلى أن «الفكرة بدأت بعدما عثرت قبل نحو 5 سنوات بعثة علمية بريطانية على بقايا سفينة فينيقية عند شواطئ أفريقيا الشرقية، فعمد القبطان فيليب بييال إلى إنجاز سفينة مماثلة لها في جزيرة أرواد السورية، فهناك ما زالوا يصنعون السفن بالطرق التقليدية عن طريق اللصق، وبلا أي مسمار، وهي مصنوعة من خشب الأرز».
ويشرح منسّى لـ«الأخبار» مسار السفينة التي أبحرت من أرواد في آب عام 2008، وعبورها البحر الأحمر وصولاً إلى رأس الرجاء الصالح ومنه إلى أطراف أميركا اللاتينية، قبل اجتيازها مضيق جبل طارق وصولاً إلى مدينة قرطاج التونسية، كاشفاً أنه «لم يكن في النيّة المجيء إلى لبنان، لكن اتصالاتنا أثمرت عن توقف السفينة في صيدا وبيروت وطرابلس، قبل أن تختم جولتها من حيث انطلقت في أرواد».
ويوضح منسّى أن «هدف الرحلة علمي، للتأكيد أن الفينيقيين عبروا هذه البحار، وقد أثبتت هذه الرحلة ذلك»، لافتاً إلى أن القائمين على السفينة «يفكرون بعد إنجاز رحلتهم بوضعها في المتحف البريطاني».
أما لماذا طاقمها المكوّن من 11 شخصاً كلهم أجانب، من جنسيات بريطانية وأندونيسية وسويدية، وليس فيهم أحد لبناني أو عربي برغم أنها تحمل اسم فينيقيا، فيردّ منسى أن «فكرة المشروع بالأساس جاءت ثمرة تعاون الجمعية السورية ـــــ البريطانية العلمية».
هذا الكلام يوافقه عليه منسّق رحلة السفينة إلى طرابلس سامر درويش الذي يوضح لـ«الأخبار» أنه «هكذا صادفت أنه لا يوجد أحد لبناني أو عربي على متنها، لكن هناك أحد الأشخاص نصفه لبناني ونصفه أجنبي!».
درويش الذي يشير إلى أن السفينة ستغادر مساء الجمعة إلى مرفأ طرطوس ومنه إلى إرواد، يؤكد أن رحلتها «كانت تجسيداً لرحلات الفينيقيين، إذ قطعت كل هذه المسافة بواسطة الأشرعة فقط، لتأكيد ما قاله هيرودت قبل نحو 6 آلاف سنة، وأثبت اليوم علمياً».