يتعرض العمال العرب لعشرات الاعتداءات شهرياً في لبنان، يموت عدد منهم في حوادث عمل أو نتيجة اعتداء. حقوقهم مهدورة، قضائيون يتحدثون عن عدم جدية تحقيقات القوى الأمنية وأمنيون يقولون إن المجرمين لبنانيون وغير لبنانيين
بيسان طي
كان الوقت يقارب الفجر على أوتستراد الدامور، لاح للعابرين على الطريق خيال جسد نحيل يتدلى بحبل. يومها كانت أصداء جريمتي كترمايا تصم الآذان في لبنان، لم يعر أحد اهتماماً للجسد المتلاشي، مر الخبر بخجل، سطران في بلاغ وارد إلى قوى الأمن: «عُثر على جثة عامل مصري مشنوق بحبل، والرقبة معلقة بمعلاق...»، ثم طوي الملف.
لم يكن للجثة اسم، لم تُعرف للقاتل هوية، سطران في بلاغ كانا كل ما ناله ذلك الراحل من تعويض، إنه عامل عربي يموت، كما يموت آخرون: سوريون ومصريون وسودانيون في لبنان. في شهر آب الماضي توفي 16 عاملاً عربياً، غالبيتهم العظمى من السوريين، تعددت أسباب الوفاة بين حوادث العمل والغرق و«أسباب مجهولة»، وتبيّن وفق تقارير أمنية أن بعض الجثث تحمل آثار ضرب أو طعن، أما في أيلول فقد مات تسعة عمال.
12 الشهر الماضي كان يوم أحد، رغم ذلك مات العامل السوري ناجي الحنيت في مقر عمله في الرويس اختناقاً «بسبب قلة الأوكسيجين»، مات وهو يعمل في يوم عطلة، ومات لما ضاقت به الدنيا حتى عزّ عليه الهواء.
الإثنين 25 أيلول مات عامل سوداني بصعقة كهربائية وهو يعمل في شبريحا، قبل ذلك بأيام رحل عامل سوري لم يبلغ سن الرشد، صعقته الكهرباء في بدنايل.
مهندسون وأساتذة وحملة شهادات متوسطة ومزارعون ومتسربون من المدارس: كلهم يعيشون على هامش الحياة اللبنانية، يرتمون في أحضان من يبيعهم الأمل بفرصة عمل في «بلاد الأرز». هؤلاء هم العمال العرب الذين نراهم على الطرقات، في ورش البناء والمعامل، هؤلاء هم من يصنع البنية الضرورية لحياتنا: طرقاتنا وبيوتنا ومكيفاتنا ومكاتبنا والأرصفة والأفران والمكتبات و... في المقابل يرضون بأجور متدنية وبغياب الضمانات، يركبون المخاطر ويواجهون نوعاً من العنصرية الحديثة. يتكدسون في غرف صغيرة بالكاد يدخلها النور، أما حيواتهم في تلك الغرف فهي مما لا نسأل عنه، ندرك وجودها حين نقرأ أن مجهولين اقتحموها واعتدوا على ساكنيها.
الوفاة أقسى نتائج الاعتداءات التي يتعرض لها العمال العرب، وهم يتعرضون لأنواع متعددة من الاعتداءات، في آب سُجل وقوع 46 اعتداءً، وفي أيلول حصل 42 اعتداءً، منها السلب بقوة السلاح أو من خلال انتحال صفة أمنية، والاعتداء بالضرب لأسباب مجهولة، والتهجم على العمال في الغرف التي يقطنونها والتعدي عليهم باستخدام آلات حادة، وسرقة أوراقهم الثبوتية، وحوادث الصدم بسيارة تسير بسرعة جنونية.
ما شهده شهرا آب وأيلول مثال على ما تورده التقارير المتخصصة، نسبة كبيرة من الضحايا... هي نتيجة حوادث عمل، يموت عمال بانهيار آلات حادة في الورش، بوقوعهم من مبانٍ عالية ينظفونها أو يشيّدونها، بصعقة كهرباء وما إلى ذلك، ويلفت ناشطون من أجل حقوق الإنسان إلى أن غالبية ورش العمل لا تعتمد وسائل الوقاية، يسأل هؤلاء «من منا لم يصادف مشهد عامل واقف على خشبة رفيعة ترتفع عشرات الامتار، يعمل معلقاً في الهواء في غياب ما يثبّت جسده النحيل. أما في ما يتعلق بعمليات السلب بانتحال صفة أمنية، فمن اللافت أن أيام عيد الفطر الأخيرة شهدت تراجعاً كبيراً في هذا النوع من العمليات، متابعون لفتوا إلى أن عدداً كبيراً من العمال السوريين والمصريين غادروا لبنان في هذه الفترة، ما يدفع إلى الاستنتاج أنهم المستهدفون من السالبين، وهنا يلفت مسؤول أمني إلى أن العمال لا يفتحون حسابات في البنوك، بل يجمعون أموالهم ويحملونها عادة أينما تنقلوا، وهذا ما يدركه السالبون جيداً، ويصير هدفهم تحويل العمال إلى صيد ثمين.
كم من القضايا المتعلقة بالاعتداءات على العمال تجد طريقها إلى المحاكم المختصة؟ سؤال لا إجابة عنه وفق ما أكد لـ «الأخبار» مصدر قضائي مضيفاً «ثمة قناعة بأن عدداً كبيراً من الاعتداءات لا يُبلغ عنه، وذلك إما لأن العامل دخل خلسة إلى البلاد وإما لأنه يخاف أن يفقد فرصة عمل أو أن يتعرض لاعتداء جديد».
مسؤول قضائي قال لـ«الأخبار» إن «النظرة المتعالية نفسها تواجه العامل حياً وميتاً، هو يعدّ إنساناً من الدرجة الثانية بل العاشرة»، وتوقف عند «عدم جدية التحقيقات التي تجريها القوى الأمنية عندما يتعلق الأمر بشكاوى الاعتداءات على عمال سوريين»، وقد لفت المسؤول إلى أن النسبة الكبرى من هذه الشكاوى تتمحور حول حوادث العمل «قلة من الضحايا – الجرحى أو من أهالي العمال المتوفين يتقدمون بشكاوى على أرباب العمل»، فالجريح يخاف أن يفقد فرص العمل، وأهالي الراحلين لا يعرفون حقوقهم جيداً، المسؤول القضائي قال «في حالات الوفاة بحادث عمل، فإن القضية تطوى عندما تدفع شركة التأمين التعويض لذوي الراحل، لكن اللافت أن هذه التعويضات لا تزيد في أحسن الأحوال على 5 آلاف دولار»، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن معظم الشركات تدّعي عند سؤالها أنها تدفع ما يزيد على 25 ألف دولار.
مسؤول قضائي آخر أكد ما قاله زميله لـ«الأخبار»، متوقفاً

توفي 16 عاملاً عربياً في شهر آب ومات تسعة آخرون في أيلول
عند «ظروف العمل الخطرة وغياب وسائل الأمان في الورش المختلفة»، مضيفاً «اللافت أن أرباب العمل هم غالباً في مأمن من المساءلة لأسباب متعددة، منها فقر ذوي العمال، الأمر الذي يجعلهم عاجزين عن تأمين مصاريف محامٍ يتابع قضايا أولادهم».
من القضايا التي صدرت فيها أحكام في قصور عدل مختلفة، تلك المتعلقة بمتهمين بأعمال سلب من خلال انتحال صفة رسمية، لكن ضحاياها من العمال لم ينالوا تعويضاتهم لأنهم نادراً ما يتقدمون بشكاوى عند توقيف متهم.
ماذا عن العمال الذين يموتون وعلى أجسادهم آثار تعذيب أو علامات قتل؟ يجيب محقق أمني من دون تردد «العمال يقتل بعضهم بعضاً، ويسرق بعضهم بعضاً»، هذا الكلام يتنافى مع ما قاله مسؤول أمني رفيع لـ«الأخبار» من أن جرائم القتل ضد العمال يرتكبها لبنانيون وغير لبنانيين، وأضاف المسؤول أن القوى الأمنية ورجال الدرك يعملون بجدية لتوقيف المجرمين ولمتابعة ملفات حوادث العمل، ويستندون إلى تقارير الأطباء الشرعيين وإلى المتابعات والاستقصاءات والتحقيقات الجنائية، لكنه أضاف أن التحقيقات قد تطول، وأن النيابة العامة هي من يقرر من هو المجرم.
أما في ما يتعلق بعمليات السلب بانتحال صفة أمنية، فقد أقر المسؤول الأمني الرفيع بأن «هذه مشكلة كبيرة جداً، ومتشعبة، في غالب الأحيان السالبون منتحلو صفة، لكن يحدث أن يستغل البعض وظيفته للاعتداء على عامل، ثمة ضعف في معالجة هذه المسألة لأسباب كثيرة منها تعدد الأجهزة الأمنية في لبنان».


آخر الأخبار والبحث عن حلول

سُمع دوي انفجار في ورشة بول ع. في سد البوشرية يوم السبت الماضي، ما أدى إلى جرح العاملين السوريين محمود ن. (22 عاماً) وأورهان غ. (22 عاماً) اللذين كانا يقومان بأعمال تلحيم. العامل السوري أحمد ع. أُصيب الأحد الماضي بحروق في وجهه وجسمه، وبجروح أدت إلى قطع يده اليمنى. وكان أحمد قد أُصيب بانفجار مواد كيماوية كان يُعدّها في إطار العمل لتفتيت صخور في مقالع سليمان ح. في بلدة داعل.
متحدث من السفارة السورية شدد على تفاقم مشكلة الاعتداءات التي يتعرض لها عمال سوريون في لبنان، ورأى أن المشكلة يمكن حلها من خلال عدة مستويات، أبرزها التوصل إلى تفاهم بين لبنان وسوريا، وكل الدول التي ينتمي إليها العمال في لبنان لتنظيم عملهم، فلا يضطرون إلى الدخول خلسة، وتصير واجباتهم تجاه الدولة المشغِّلة واضحة، كما تُصان حقوقهم وواجبات أرباب العمل تجاههم. أما في السفارة المصرية فقد رأى المستشار العمالي محمد شيحة أن ثمة مشاكل يعانيها العمال المصريون، لكنه قال إن السفارة لم تُبلغ بوقوع عدد كبير من الاعتداءات عليهم.