يتحدث الفرنسيون عن «صيف هندي» عندما يكون جو الخريف لطيفاً مكملاً لفصل الصيف مع سماء صافية ترافق عودتهم إلى حياة عملية صاخبة. لكن أفكار الجالية اللبنانية هنا، تبدو اليوم بعيدة جداً عن تأمل لون السماء، ذلك أن لبنان عاد «يضرب» من جديد
باريس ـــ بسّام الطيارة
أخبار البلاد «عادت تلاحق» مغتربينا وتنغّص يومياتهم .الهمّ من جديد على الوجوه. تتردد في طرح سؤال، إلا أن ترددك لا يدوم، عينا محدثك تبرقان ويأتيك رشق الأسئلة: «ان شاء الله ما بتعود الحرب، بس شو صاير بالبلد؟»، «شو بدهم الفرنسيين؟»، «شو بدو حزب الله؟»، «شو قصة المحكمة؟»، «صار اختبار التفجير؟»، «شو بدو الحريري؟»، «في شي غلط بين سوريا والسعودية؟»، «ليش عادت القوات اللبنانية تتنمرد؟»، «جنبلاط شو عم بقول؟». أسئلة تتقاطع في أحاديث الجالية وتذهب باتجاهات شتى وكأن في خروجها نوعاً من تنفيس الاحتقان، إلا أن هذه الأسئلة، رغم تشابهها، ترسم خطوط انقسام لا تغيب عن المتابع للشأن اللبناني. انقسام يبدو جلياً في تراتبية الاسئلة وطرحها التي تشير إلى «أفق المتحدث» وما يحب أن يسمع، من دون أن يمنع وجود قاسم مشترك يجمع بين لبنانيي المهجر: انتقاد مر لساسة لبنان.
عاد التشنج يظهر عبر الهروب من الإجابة عن الاسم «شو بدك بالأسماء؟ سل وأنا أجيب، بس ما تذكر أسماء». بات كل طرف يتقوقع في مجلسه، وعادت الحلقات حول القنوات اللبنانية تشهد ازدحاماً في صالونات عابقة بدخان السجائر، يعقبها في الليالي الطوال «محادثات عبر سكايب» لتخزين «أخبار من لبنان» استعداداً لجولة الغد قبل نشرة الأخبار. أحد أقدم المقيمين على ضفاف السين يبتسم وهو يقول «لم يتغير شيء على لبنانيي باريس، فما زالوا يحبون سماع ما يطربهم» ويتنفس قليلاً ليضيف: ما زالوا «يهربون من سماع الحقيقة»، ويبعد فنجان القهوة وينظر إلى محدثه ويتابع كأنه يبوح بسر لا يعلمه غيره «البلد خربان الشعب خربان». تتجرأ وتطرح سؤالك: «والمحكمة؟»، يصفُن قليلاً ثم يبلع ريقه ويتابع «من حق سعد الحريري أن يعرف من قتل والده» ويستطرد بسرعة «الشهيد رفيق الحريري كان سياسياً من الباب الأول. كان وطنياً، كان قوميا» ثم يستطرد بسرعة أكبر «بس لازم نتنبه شو في من وراء المحكمة؟ لوين ممكن يروح البلد». يتنفس قليلاً قبل أن يضيف «ما تذكر وين التقينا لأنه كل الناس بتعرفني». أما فيوليت فتلطم خدها ما إن تسألها عن لبنان «بدهم يخربوه!» لا تنتظر السؤال عن «هؤلاء الذين يريدون خراب لبنان» فهي تتبرع بالإجابة «كل العالم من إسرائيل وجرّ» وفرنسا؟ نسألها فتجيب «ساركوزي لا يهتم بلبنان»، تلطم خدها مرة ثانية وتعيد التذكير برؤساء الجمهورية الفرنسية كافة الذين تعاقبوا على الإليزيه بتسلسل مشوش إلا أنها ترى «أن الفرنسيين منذ عهد شيراك تركوا لبنان يتخبط بعجز أبنائه». والحل؟ نسألها فتجيب «ما في خلاص لأنه ما في تربية مدنية، بعدنا شعوب ما صرنا شعب واحد».
عاد التشنج عبر الهروب من الإجابة عن الإسم «شو بدك بالأسماء؟»
هانية، طالبة جامعية في أول سنة دكتوراه. لا تتردد في الإفصاح عن أصولها «الجنوبية»، تقول بعفوية إنها «مبسوطة بخروجها من لبنان في هذه المرحلة» لأنها تريد متابعة تخصصها، إلا أنها تؤكد أنها «عائدة حكماً إلى البلد». أما رأيها في ما يحصل فهي تضع إجابتها «ضمن اختصاصها»: في الحقوق. «أولاً غلط الحديث عن قرار ظني قبل صدوره» وتضع اللوم الأول على جهاز المحكمة «الذي يقال إنه نقل مضمون هذا القرار إلى الحريري الذي نقله إلى السيد نصرالله». وترى أن ذلك «غلط كبير تنعكس نتائجه على البلد». مايا، والتي تتابع دراسة جامعية عليا أيضاً، ترى أن «حزب الله خائف» وتتساءل «ليش؟» رغم أنها توافق مواطنتها هانية «على خطأ التسريبات حول القرار» إلا أنها لا ترى في الأمر ما يمس «صدقية المحكمة» وتعطي أمثلة على محكمة كوسوفو. سامي لا يوافق على توصيف المحكمة بالنزيهة ويقول «لو أن الأمر يحصل هنا في باريس لكانوا غيّروا قاضي التحقيق» ويشير إلى عدة حالات في فرنسا تم إبعاد أو نقض قرارات قضائية بسبب أخطاء إجرائية، ويضيف «المحكمة مسيسة من أول يوم». أما علي، وهو طالب في كلية العلوم قسم الرياضيات، فيوافقه الرأي. إلا أنه يرى «ضرورة انتظار صدور القرار». نضال يستبق السؤال بالإجابة «بدهم يلبّسوها لحزب الله» من؟ نسأله: يضحك ويجيب «إسرائيل وأميركا وفرنسا». عبد، الذي يسعى إلى التسجيل في جامعة يرى أنه «في السابق كانت سوريا المتهمة... اليوم حزب الله» يتنهد قليلاً معترفاً بأنه من «١٤ آذار» ويسأل «ما في مشكلة مش هيك؟» قبل أن يتابع «فلننتظر لنرى، يمكن التحقيق يستنتج إنها إسرائيل».
طلبة لبنان في فرنسا لا يخافون الحرب. فأغلبهم ولد وترعرع في ظل «اتفاق الطائف». وأغلبهم يجهل المعارك التي سبقت «حالة السلم» التي فرضها الاتفاق، وعديدون لا يفرقون بين اتفاق الطائف واتفاق الدوحة، إلا أنهم يبدون متفقين على كون تدخل القوى الإقليمية في الشأن اللبناني... «طبيعيا». إنه جيل العولمة وغياب الحدود، يعيشون في أجواء اتحاد أوروبي بدأت تتلاشى وراءه «الشوفينية القومية» حسب قول مايا.
أما الجيل الذي سبقهم والذي خبر الحرب، فله رأيه بـ«التدخلات الدائمة» وبـ«عودة سوريا إلى لبنان» والشبهات الموجهة لإسرائيل ولإيران. جان سائق تاكسي «من الجبل» يبدأ بالإجابة بسؤال «ليش حزب الله خائف؟» إلا أنه يعترف بضرورة «الأخذ باحتمال أن تكون اسرائيل وراء كل شيء» إلا أن ما يهمه هو «عدم عودة سوريا إلى لبنان» وينظر إلى الخلف في المرآة ويسأل «شو مظبوط الحريري بدّو السوريين يرجعوا ليحموا السُنَّة؟» ويضيف «مجانين!».
دونا، جوابها سهل «أنا لبنان نسيته. شعب مجنون»، شقيقها جوزف يعترف بأنه لا يفكر بالعودة «إلا للسياحة إذا هدأت الأحوال»، وهو يرى أن السيد نصرالله «مقاوم من الطراز الأول الذي يحبه الفرنسيون» لكن ينصحه بانتظار القرار «لنشوف». أما إسرائيل فـ«بالطبع ممكن تقوم بمثل هذه الجريمة» ويضيف: لكنها «محمية من أميركا. بتعمل يللي بدها ياه».
عادل موظف كبير في مصرف ويتابع أخبار لبنان عن بعد، يرى أن «الحميّة الطائفية والمذهبية سوف تأخذ البلد للخراب»، زوجته لا توافقه الرأي وتقول إن «المحكمة ضرورية لمعرفة الحقيقة »، وترى أن إسرائيل وإيران متفقتان على «تقاسم لبنان» وتدعو «لعودة سوريا». ينظر إليها زوجها شزراً مورداً ملاحظة ترتدي لبوس الاعتذار «أصول عائلتها السورية تدفعها لهذا الكلام» ويستطرد بأن «السياسة والعواطف لا تتفقان» رغم اعترافه بالروابط بين لبنان وسوريا.
جميل، الذي يعمل في التجارة بين أفريقيا وفرنسا، لا يريد أن يسمع أي كلمة «تخدش حزب الله حتى ضمن السؤال». يقول «إسرائيل ثم إسرائيل ثم إسرائيل وراء اغتيال الحريري» ويقفل باب السؤال والجواب. دعد وشريكتها جورجيت سيدتان تعملان بالتجارة بين بيروت وباريس، تتفقان على كل شيء إلا على «الجنرال عون»، سألنا عن السبب: بالنسبة لدعد «عون يغير رأيه مثل جنبلاط»، بالنسبة لجورجيت «صح يغير رأيه ولكن لمصلحة لبنان». أما المحكمة فضرورة برأي الاثنتين و«الانتظار وعدم التسرع» هو ما تنصحان به حزب الله. أما نصيحتهما لسعد الحريري فهي «كن رجل دولة».


«بلا بلد بلا بلوط»

«الشباب» من اللبنانيين في فرنسا فقط تحدثوا عن الدين العام. فغالبيتهم ترى أن «إفقار الناس أخطر من كل هذه الأحاديث». أما بالنسبة لميزانية الدولة «التعبانة»، فهي تثير لدى الشبيبة موجة ضحك ممزوجة بقرف ظاهر. ويقول سامي (الحقوقي) «هذه مهزلة»، ويضيف أن ميزانية الدولة هي عمودها الفقري، واتهاماته موجهة للجميع: فـ«المعارضة السابقة كما تسمونها في صحيفتكم كانت تحكم أيام السوريين».
أما عماد الذي «هجر مهنة المصارف نتيجة أزمة ٢٠٠٨» وفضّل البقاء في فرنسا «لغياب الضغوط والحديث عن عودة الحرب عند كل مشكل صغير». فقد بدا متردداً في إجابته. يعود بالذاكرة إلى ٧ أيار كاشفاً أنه كان قد قرر العودة إلى لبنان لتأسيس عمل مستقل، و«ليعود الأولاد إلى بيئتهم»، يزداد تردده ثم يقول «أنا شيعي متزوج من سنية. حين شاهدت ما يحصل في شوارع بيروت سألت زوجتي ماذا نفعل؟» ينظر إلى البعيد ويقول «قالت لي بلا لبنان بلا بلوط، خلينا هون»، وهكذا كان. ينهض عماد ويجر رجليه نحو محله، فحديث المحكمة لا يهمه، وكذلك الحديث عن شهود الزور. في الواقع لا يهمه أي حديث عن لبنان.