أنسي الحاجكان لبنان على الدوام هدفاً للخارج. من الأخطاء الشائعة نسبة نفوذ الدول فيه إلى ارتباط الموارنة الديني بالفاتيكان ومن ثم بفرنسا ابتداءً من الحروب الصليبيّة وامتداداً إلى ما سُمّي «المارونيّة السياسيّة». غزاه الفاتحون منذ فجر التاريخ. قبل الموارنة وقبل المارونيّة السياسيّة وقبل المسيح. وقبل المشكلة الفلسطينيّة والمسألة الشرقيّة. لبنان الدرزي ولبنان الماروني. لبنان الفينيقي والعربي والعثماني والفرنسي ولبنان الاستقلال. حكْم فخر الدين لم يكن مارونيّة سياسيّة ولا حكم المير بشير، ومع هذا استقطبا الاستهداف. منذ أقدم العصور وهو يدفع الجزية لإمبراطور ما أو لجار بعيد أو قريب، بصفته العضو المستضعف ذا الأرض الخصبة والموارد التجاريّة في عائلة الشرق الأدنى. ثم بصفته متعدّد الطوائف يسهل اللعب بتناقضاتها لابتزازه أو بالأكثر لابتزاز الدول الأخرى. إنّ تخيّل مارونيّة سياسيّة تتحكّم في لبنان بوحي استراتيجيا خَفيّة، أضحوكة. القاصي والداني يعلمان أن مَن وضع أسس السياسة التوازنيّة للبنان هم غالباً سريان أو لاتين أو أرثوذكس، ولم يغالِ أحد في «مارونيّته» كالأرثوذكسي الصميم شارل مالك. وأوّل رئيس لدولة لبنان الكبير عيّنه الفرنسيّون وفاق بقاؤه في السلطة بقاء أيّ رئيس آخر قبل العهد السوري، هو الأرثوذكسي البيروتي شارل دبّاس الذي لم ينشرح الانتداب لحاكم لبناني كما انشرح له. ولم يتضايق الانتداب من استقلاليّة رئيس جمهوريّة مرّ عليه كما تضايق من صديقه المحسوب على فرنسا الماروني الفرنكوفوني الفرنكوفيلي إميل إده. الحاجة كانت ولا تزال إلى كتابة جديدة لتاريخ لبنان تستند إلى الوقائع لا إلى المراعاة. لا نبرّئ الموارنة ولكنّنا لا نبرّئ سائر الطوائف الشريكة من ابتزاز حكم الموارنة خصوصاً منذ الاستقلال. ظلّ المسلمون والأرثوذكس حتى اندلاع فتنة 1975 على فوهة التهديد (وأحياناً يهدّدون فعلاً) بالعودة إلى أحضان سوريا إذا لم... عجز الرئيس الماروني أن يحكم من غير أن يخيّم شبحُ تهديد عربيّ على حكمه. قد يكون فؤاد شهاب الوحيد الذي اتّقى، نسبيّاً، وطأةَ هذا الشبح بفضل اللقاء الذي جمعه فجر عهده بجمال عبد الناصر تحت الخيمة عند الحدود اللبنانيّة ـــــ السوريّة. ذهب إلى محالفةِ النبع ليحمي نفسه من الجداول. وكانت سياسة لبنان الخارجيّة في عهده ذروة التقيّة. صبّ اهتمامه على محاولة بناء المؤسسات وإرساء نوع من أنواع العدالة الاجتماعيّة، وفَعَل الكثير، وانتهى مفعماً بالقرف. هذا أميرٌ مارونيّ من سلالةٍ تحيط بها هالات المجد لم يستطع أن يتغلّب على دهاقنة السياسة اللبنانيّة وألاعيبهم، بمسيحيّيهم ومسلميهم. قبله الماروني كميل شمعون أراد أن يجدّد الدم النيابي والوزاري في عروق الجمهوريّة فثارت عليه الأصنام، وحاول أن يكون عروبيّاً، وهو الملقّب بـ«فتى العروبة الأغرّ»، على طريقة حلف بغداد والغرب الأوروبي والأميركي لا على هوى عبد الناصر والاتحاد السوفياتي، فركّب له عبد الناصر ورجل استخباراته السوري عبد الحميد السرّاج «ثورة» 1958. وقبله لم تكن المارونيّة السياسيّة مَن جاء بالشيخ بشارة الخوري رئيساً، بل الجنرال سبيرس والإنكليز ومصر مصطفى النحّاس باشا وسائر العرب الذين تنفّسوا الصعداء بخلاصهم من إميل إده وعدم مجيء خليفة من نوعه «الانعزالي». بعد شهاب، هل استطاع شارل حلو، الأديب المفعم بالروح المسيحيّة المتسامحة، أن يحكم نهاراً واحداً، رغم مارونيّته التي جعلت رسّام السياسة اللبنانيّة بيار صادق يصوّره في «النهار» على هيئة كاهن، وهل مكّنته تلك المارونيّة من فرض هيبته على كاتب أرعن مثلي هاجم عهده بأقذع الكتابات، أو على ضابط في الشعبة الثانية، أو على وزير إعلامه الدرزي، أو على رئيس حكومته السنّي المعتكف أبداً والمعطّل لكلّ الدولة؟
■ ■ ■
نخلط بين نزعتنا إلى كراهية كلّ سلطة وبين أخطاء الموارنة الذين حكموا، كما يخلط مَن ليس في السلطة ـــــ أو مَن هو في سلطة أقلّ ـــــ بين شهوته لسلطة أكثر أو للسلطة كلّها وبين مثالب السلطة القائمة. لقد أخطأ الحكام الموارنة، لكن الآخرين استثمروا هذه الأخطاء وبنوا عليها وجودهم على حساب قواعدهم المخدوعة والمحرومة. وها هم سنّة الأمس العروبيّون والناصريّون واليساريّون يصبحون على يمين موارنة الأمس. كما جاء وقت لم يكن التاريخ يميّز فيه كثيراً بين الماروني والدرزي. أما الشيعة فكانوا أحبّاء الكلّ حين لم يكن لهم دولة ينعمون بحمايتها، فاستلطفهم الجميع لأنّ الجميع استضعفوهم. وها هم أقوياء، ومكروهون، ومعرّضون لمثل ما وقع فيه سابقوهم. إنه لبنان: بلد يدمن أهله الفرديّة، ويدمن زعماؤه وطوائفه الالتحاق بالدول، ويدمن بعض رجاله الموت في سبيل حريّته.
حريّة لم تُعْدَم مجانينها منذ آلاف السنين، يدفعون ثمنها تارةً بنزاهة تُجاور القداسة وطوراً باستهزاء عَبَثيّ يشرب الحياة كأنها كأسُ وداعِ الحياة.
■ ■ ■
كلّ هذا ونحن طائفيّون. لعلّنا هكذا لأنّنا طائفيّون. عَصَب الحريّة هذا هو عصب حريّات تتمسّك بتمايزاتها بعضها عن بعض. لنبحث عن جذوره، بالإضافة إلى الجغرافيا، في هواء التعدديّة، في جنّةِ الفوضى الغنّاء، وفي ما تتيحه لنا هُويّاتنا المختلفة من خصائص نرفض لها أن تضيع في خضمّ اللون الواحد والدين الواحد والمذهب الواحد واللغة الواحدة والحاكم الواحد. التوحيد هنا بغيض لأنّه سجن. هذه كبرى فضائل التعدديّة: كَسْر رتابةِ العيش وتحويل المفاجأة إلى دستور ونظام. ما زال اللبناني يموت فداءَ حريّته لأنّ نهج حياته ما زال وحشيّاً. لم ينضبط في سياق الترويض الحضاري على النحو الغربي، بل مَزَج البداوة والزراعة برغد العيش المتمدّن. خليطٌ بشع، هجين، لكنّه يحفظ هؤلاء الهنود الحمر الذين هم نحن من الانقراض. لا تزال لنا قارتنا.
الخطر على هذه المجموعات التي تتألّف جاذبيّتها من تنافرها هو الغريزة. لا تتقّدم الغريزة في السنّ إلّا نادراً. حتّى عند الذين يحترفون صناعة الضمير. ما إن تنقر على الوتر حتّى يرنّ. عندما نتخاطب في السلم نلجأ إلى «العقل» وعندما تُراد الفتنة تكفي شرارة. خَطْفٌ أو قتلٌ على الهويّة. تصريح. شائعة. لم يبرهن أحد على كونه أقوى من الغريزة. لا لبنان ولا العراق ولا السودان ولا اليمن ولا مصر. ولا فرنسا ولا بريطانيا ولا إيرلندا ولا اسكندينافيا. ولا أميركا ولا روسيا. التسامح يتراجع في كلّ مكان. حلّ شبحُ التأسلم محلّ العروبة، والشرق الأوسط الجديد، بزعامة إسرائيل وتركيا وإيران، بات واقعاً ونموذجاً لمشاريع تفتيتات وإعادات تكوين أخرى في العالم. ولا نعلم ماذا يُعَدّ للصين ولا ماذا تعدّه الصين لغيرها.
يؤسَفُ على تعايش التنوّع لأنّه، في بنيان الوجود، هو الأرقى. إنّه الينبوع الفيّاض بالينابيع، فيما المجتمعات الأحاديّة العرْق أو الدين أو المذهب جدار مُلْصَق بجدار ملصق بجدار. توتّر الاختلاف هو ضمان تجدّد الصبا الروحي. رتابةُ المَشهد عودةٌ إلى القطيع. المجتمع الأحادي الشكل والروح كهفٌ مظلم حتّى لو رفع شعار الماركسيّة، فكيف بشعار الأصوليّة الدينيّة. ما يريده مشروع التفتيت هو العَزْل في غيتوات يحكمها حرّاسُ سجون وتُراقبها ميرادورات تشرف من أعلى مراصد القنص لاصطياد الفارّين. مشروعٌ يضعُ الجميع على خطى إسرائيل. لا من الفرات إلى النيل، بل من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي. وأغربُ ما فيه أن الذين يظنّون أنهم يقاومونه لا يدرون أنهم يساعدون في إنجازه.
■ ■ ■
هناك ما يَسْقط. وما يسقط يسقط في الحاضر، في اللحظة، ولا يُحَسّ سقوطه إلّا بعد فوات أوان تداركه.
يُسمّون هذا حتميّة. حتميّة التاريخ أو السماء، لكنّها ليست حتميّة فردوسيّة. ما وعد به الإنسان نفسه عبر الأجيال لا علاقة له بهذا المصير.
وأخطر ما يخيف أنّ ثمّة دوماً أملاً. فالأملُ هو القدمان اللتان يمشي عليهما الفَرَج مثلما قد يمشي عليهما السقوط.
والأخطر من الأمل، اليأس.
والأخطر من الأمل واليأس أن لا يعود هناك فَرْق.


مفاجآت الجنابي

مدهشٌ عبد القادر الجنابي، دائماً.
بعد كتابه «قصيدةُ النثر وما تتميّز به عن الشعر الحرّ» (صدر قبل أشهر عن «دار الغاوون») ها هي الدار نفسها تصدر له «الأنطولوجيا البيانيّة ـــــ في حدّ الشعر وتعريفه»، وهو كتاب يجمع «أهمّ النصوص المؤسِّسة للحداثة الشعريّة (...) أجناسٌ أدبيّة متضاربة، وأصواتٌ متنافرة ظاهريّاً، لكنّها متناغمة في العمق».
شاعرٌ تنتظره في مكان فيطلّ من مكان آخر. المفاجأة، أحد أسماء الشعر، هي فطرةٌ لديه.
والمفاجأة هي في انكبابه على الدراسة الأدبيّة وتقديم الآخرين، وهذه ميزةٌ رائعة، في حين أنّ مَن يعرفه، ولي هذا الشرف، يعرف مقدارَ غناه الداخلي، وأنه لو أراد لغَرَف من نفسه ما هو أجمل وأخطر من كثير ممّا يترجمه للآخرين ويحفل به.
لكنّه المفاجئ. وأيّاً ما فعل فوقْعُه فريد وعلْمه تعليم. استوقفتني محطّاتٌ عديدة في الكتاب، منها حكايةُ إليوت مع قصيدةِ النثر، والموازنة النثريّة بين عبّاس بيضون وأمجد ناصر.
مهما اختبأ عبد القادر الجنابي وراء الشعراء الآخرين تُرى قامته. وأحياناً كثيرة عندما يسلّط الضوء على سواه فكأنّما سواه يسلّط الضوء عليه.
حين يضع المبدع نفسه في خدمة المبدعين يرضي جانب الظلّ فيه ويظلم جانب الإشراق. لطالما فعل الجنابي ذلك، هذا المنفيّ المقيم في كلّ حُرّ. لطالما فعل ذلك ولم يستطع أن يحجب أصالته. لقد أصبح اسم هذا العراقي الذي شُرّد قبل أن يُشرَّد العراق، أصبح، بتمرّده وشجاعته وصدقه، رمزاً من رموز العصيان الذي يحتاج إليه العقل العربي.