انطفأ مونو. ذاب الشارع، فجأة، أمام صعود الجميزة، وخفوت الوسط التجاري. لكن الصورة هناك أصبحت أبسط بكثير الآن: «الجيران القدامى» يفرضون سيطرتهم على الشارع، تحت ذريعة تنظيم السير، وإيقاف السيارات
أحمد محسن
لم تنفع كل الحلول الطبيعية بين «جماعة» مونو و«شباب» الخندق. كانت العلاقة ملتبسة دائماً. جيران مونو، الذين ألفوا التفاوت الطبقي مع الوسط التجاري، ينظرون إلى شارع السهر بوصفه دجاجة تبيض ذهباً، والمستثمرون فيه ينظرون إلى القادمين على أنهم من «تحت» والشارع «فوق». لم تنفع كل الطرق العادية لحل «غزوات» الشباب المتواترة، من اللجوء إلى المخافر تارةً، أو «تبويس اللحى» تارة أخرى. بدت الأزمة الاجتماعية بين الطرفين معقدة فعلاً. لكن، قبل أشهر معدودة، وفجأة، توصل الجميع إلى تسوية... على الطريقة اللبنانية.
كانت التسوية تحتاج إلى طرفين رئيسين، على ذمة المتابعين. هكذا، كان لا بد لأصحاب المطاعم من التعامل مع الشريك الطبيعي لبنانياً: «الأحزاب الموجودة على الأرض»، كما يلفت صاحب إحدى الحانات. وبعد سلسلة مشاورات، لم تستغرق وقتاً طويلاً، تم الاتفاق على تسليم إدارة شؤون إيقاف السيارات (الفاليه باركينغ) إلى حزبيَّين معروفَين في محلة قريبة. وبالفعل، انحسرت المشاكل كثيراً، لكنها لم تختف. أخذت طابعاً آخر بعد الاتفاق مع الأحزاب. وشيئاً فشيئاً، راحت سيطرة الحزبيين في مونو تتسع كبقعة زيت تنفلش على مساحة الشارع تدريجياً. اليوم، يمكن أن ترى في الشارع البيروتي الصغير ما يشبه بعض المشاهد من فيلم «العراب» 1940 الشهير: مناطق نفوذ، و«مافيات». وإلى ذلك، في مونو اليوم، الكثير من الحانات التي لم تقفل بعد. الكثير من المباني الملونة. الكثير من الأماكن لوقف السيارات والمداخل والمخارج. لكن، لا يمكن اكتمال صورة الشارع بلا عرابَيه الحقيقيين. ثمة اسمان لرجلين قويين في الشارع لا ثالث لهما. ثمة «عرّابان» فقط: أبو علي وأبو عرب.
إنذار لصاحب المحل بضرورة فسخ عقده مع الشركة تحت طائلة التكسير
أحكم «القبضايان» القديمان سيطرتهما على الشارع، مع مرور الوقت، بوصفهما وصيين على جميع الشبان من المناطق المجاورة. ويشدد أحد العاملين في إيقاف السيارات، على أن مصطلح «جميع الشباب» يعني جميعهم فعلاً. «شاء من شاء وأبى من أبى الرجلان هما الآمران الناهيان في المنطقة». وللمناسبة، معظم الشباب العاملين لا يبدون متضايقين من الموضوع. على العكس تماماً. محمد، مثلاً، أحد هؤلاء، فخور بذلك. يعمل مع أبو عرب «قبضاي الخندق» وهو الاسم المعروف به منذ فترة طويلة. والمقصود بالخندق، هو منطقة خندق الغميق، وليس أي خندق آخر. العلاقة مع المسؤول الحزبي تأخذ طابعاً يكاد أن يكون أهلياً، معمّداً بالانتماء المقدّس إلى «المنطقة» و«الطائفة»، على غرار الصورة النمطية المنقولة عن المقاتلين في الحرب الأهلية، بين المسؤولين في الميليشيات ورجالهم. وإلى الأعمال الروتينية، كإيقاف السيارات أمام الحانات، المقسمة بين «العرابَين»، ابتداءً من ساعات العصر المتأخرة، لإغلاق المنافذ أمام الزائرين «المتذاكين»، ونقل سيارات الزبائن في ساعات الليل، يقوم هؤلاء الشباب بوظائف أخرى، تعود إلى حقبة «أبو الجواهر». وعلى حد قول صاحب إحدى الحانات، ما دامت العلاقة جيدة مع «الشباب» ـــــ قاصداً المسؤولين المولجين تنظيم شؤون السير ـــــ فالعمل بخير. ويعترف شاب آخر، يعمل مع أبو علي عكنان، رفض ذكر اسمه، بوجود نوعية أخرى من المهمات، التي تخرج عن إطار إيقاف السيارات. مهمات، تعني السيطرة على الحي بكامله، كما يقول. يعلن بصراحة أن هذه الأعمال «قد تقتضي التكسير أحياناً». تكسير ماذا؟ يجيب ضاحكاً: «كل شيء». كل شيء: السيارات التي تقف في أمكنة تقع تحت السيطرة. الحانات التي تستقدم شركات لتنظيم «الفاليه باركينغ»، ولا تستجيب للإنذارات بضرورة الرحيل «من المنطقة». وأيضاً، تكسير الرؤوس التي ترتفع لمواجهة هذا «النظام»، الذي يفرض «دورة عمل» هناك محورها الرئيسي: «العرابّان»، ويستمد شرعيته من الواقع السياسي العام، مرتكزاً على الوضع الديموغرافي بطبيعة الحال.
الحالات التي تحصل فيها خلافات مع عمال الفاليه باركينغ يومية تقريباً، لكن معظمها يحل سريعاً. تكفي الإشارة إلى مشهد إيقاف السيارة، بعد السادسة مساءً، في مكان ما من الشارع، من دون إذن «الفاليه». حاولت إحدى الصبايا «تطنيش» الفاليه». اقترب منها شاب متوسط الطول، هزيل البنية، يرتدي ثياباً سوداء شبه أنيقة. عيناه بالكاد ظاهرتان، كأن وجهه ابتلع تفاصيلهما. ربما لقلة النوم، فعمال المواقف يسهرون حتى ساعات متأخرة. انتشل يده اليمنى من جيبه، وباليسرى فرك شعره المربوط على طريقة ذيل الحصان. لم يتكلم كثيراً: «شيليها من هون» خاطبها واثقاً، مشيراً بإصبعه إلى مخرج الشارع المؤدي إلى «الرينغ». قالها ببطء شديد. لم تبد الفتاة انزعاجاً، فقد توقعت ذلك. ابتعدت بسيارتها إلى الجهة الغربية للشارع. ابتلعت المسافة بسيارتها، وعادت سيراً. المشكلة مع «الفاليه» مكلفة، خصوصاً في مونو. وصحيح أن بعض الناس صاروا يفضلون إيقاف سياراتهم بأنفسهم، على الطريق الغربي المؤدي إلى مونو تحديداً، لجهة تقاطع بشارة الخوري، فإن المشادات لم تختف. انتقلت إلى مكان آخر. ومنذ شهرين تقريباً، اضطرت إحدى الشركات العاملة في إطار تنظيم وقوف السيارات، إلى مغادرة عملها في مونو، والاستغناء عن العقد الذي لزمت بموجبه تنظيم إيقاف السيارات أمام إحدى كبرى الحانات في الشارع. ويقول صاحب الشركة، إن رجالاً «يعملون مع أبو علي ع. تعرضوا للشبان العاملين معه بالمضايقات، قبل أن يوجهوا إنذاراً لصاحب المحل بضرورة فسخ عقده مع الشركة الجديدة، تحت طائلة تكسير المحل». ولم يكذب صاحب المحل خبراً. أخبر الشركة بضرورة الرحيل. وهذا ما حصل. وأكد صاحب الشركة، في حديث مع «الأخبار» أن هذه المرة الثانية التي يواجه فيها الانتقال بلا مسوغ قانوني «بعد حادثة مشابهة واجهها في منطقة وسط بيروت التجاري «من الجماعة ذاتها». بين الشركات العادية، وشبان المناطق القريبة، اختار صاحب الحانة التعامل مع الفريق الثاني، لأن مسؤوليه قادرين على لجم مفتعل أي إشكال. وعلى سيرة الإشكالات، هناك الدرك أيضاً. وفيما يرفع صاحب أكثر من حانة في المنطقة المسؤولية عنهم، بغرابة شديدة، قائلين: «الله يعينهم»، يقول آخرون إنهم لم يروا دركياً واحداً في مونو، منذ سنين خلت. وربما، لقلة حضور القوى الأمنية إلى الشوارع التي تشهد مزاحمات حادة، ما زال كثيرون من سكان تلك الشوارع يدللون على رجال قوى الأمن الداخلي، مستعملين مصطلح «الدرك»، علماً أن سرية الدرك، هي سرية إقليمية، ضمن القطعات العملانية في مجموع عديد قوى الأمن الداخلي، وتالياً، ليس جميع رجال قوى الأمن الداخلي «دركاً»، لكن جميع «الدرك» هم أفراد في قوى الأمن الداخلي. في المحصلة، يبدو أن الأمن في مونو، في ظل الظروف الاجتماعية الحالية ليس ممكناً إلا بالتراضي، لا بالدرك، ولا بغيره. شارع مونو، عَود على بدء. هذه الصورة اللبنانية من الأمن هي نتيجة التوافق غير المباشر بين مجموعة أطراف: التجار، عمال المواقف، أصحاب المطاعم، أبو علي، أبو عرب، صاحب الشركة التي طردت من مونو أخيراً، الزبائن، السياح، وطبعاً الدولة. الدولة موافقة على هذه الصيغة، أليس كذلك؟


25 ألف ليرة ولا تأمين

يعمل معظم الشباب في إيقاف السيارات (الفاليه باركينغ) في منطقة مونو ثلاثة أيام (الجمعة، السبت، والأحد) في أغلب فترات العام، وأحياناً يعملون يوم الخميس، عندما يكون «موسم» السياح زاهراً. وعلى عكس الشائع، فإن الشبان لا يجنون مالاً كثيراً من مهماتهم، إذ إن هناك تعرفة شبه ثابتة، تراوح بين 25 و30 ألف ليرة لبنانية، بدلاً يومياً عن أتعاب كل شاب يعمل في إيقاف السيارات، على أن يسلّم كل شاب البدل الذي يدفعه كل زبون من دون أي نقصان إلى المسؤول عنه. أما المهمات الأخرى، التي قد يقوم بها الشباب، فتندرج في إطار «المَونة» والعلاقات الاجتماعية ـــــ الحزبية الأخرى. وفيما يعمل الشباب في أماكن خطرة، تتطلب منهم عبور الشارع بسرعة، وإحضار السيارات إلى أصحابها، لا يحظى معظمهم بتأمين على سلامتهم، لأن العاملين في مونو ليسوا شركات منظمة، على غرار المناطق الأخرى، والتي تحصل فيها أمور مشابهة أحياناً، بسبب غياب الرقابة على الموضوع، وغموض صورته في قانون العمل اللبناني. يركضون لنصف ساعة أحياناً، ولا ينالون إلا «من الجمل أذنه».