ضحى شمسفجأة رأيتها مصفوفة الواحدة إلى جانب الأخرى: ستة أجهزة ريموت كونترول بقربي على الكنبة. ستة. نظرت إليها كأنني أكتشفها للمرة الأولى. متى أصبح لدي كل هذا العدد من هذه الأجهزة؟ ستة؟ ما حاجتي بستة أجهزة ريموت كونترول، أي أجهزة للتحكم عن بعد؟ تفحّصتها كمن يتذكر ما هو اختصاص كل واحد منها ليكون وجوده مبرراًً: واحد لجهاز الموسيقى، وآخر لتشغيل التلفزيون، وهو فعلاً لا يفعل شيئاً سوى تشغيل التلفزيون، أي أن كل عمله يتلخص بمجرد كبستين في اليوم، واحدة عندما أصل مساء لأشغله وواحدة قبل أن أنام لأطفئه. وبعدها علي الانتباه إلى أن لا أستعمله بالغلط لئلا يقلب نظام الدش إلى نظام التلفزيون الأرضي. بهذا القدر من التشغيل، قلت في نفسي، قد تدوم بطارياته على الأقل عشرين عاماً. أما الثالث فلتشغيل الدش وتغيير القنوات وما إلى ذلك، لكني لا أستطيع أن أشغّل التلفزيون بواسطته، وإلا حصل اختلاط بين الأنظمة الفضائية والأرضية. الرابع للمكيف، وهذا الأخير ربما كان الوحيد المبرر بينها، لأن المكيف عادة ما يثبّت في مكان عال لا تصل إليه اليد. والخامس للدي في دي، الذي خلف جهاز الفيديو بنظام «في أتش اس»، وهو جهاز لا يزال يعمل ولكني لم أعد أستخدمه إلا للأفلام بالنظام ذاته، أي التي تعود الى مرحلة ما قبل اختراع «الدي في دي» وسيطرته على الأسواق، لكون الشركات لم تعد تصنع نسخاً من الأفلام للفيديو «في أتش اس» فدخل الجهاز غصباً عنا التاريخ، مع أنه كان عملياً جداً. تماماً كما يحصل لشرائط الكاسيتات في عصر الـ«سي دي» أي «الأسطوانة المدمجة» (يا لهذا الاسم العويص). أما السادس، فلجهاز الفيديو «في أتش اس»، الذي لم أعد أستعمله كثيراً. ستة أجهزة ريموت كونترول، تفبركها ست شركات مختلفة، مصفوفة على الكنبة تحت متناول يدي، بالطبع، فلا معنى للريموت كونترول إن كان عليك أن تقوم من مكانك. ستة أجهزة متشابهة الوظائف، لكن كلّاً منها لآلة مختلفة، ولا يمكن الاستعاضة عنها بواحد فقط للكل. او ربما يمكن، ذلك أن هناك من أخبرني أنه كان علي شراء جهاز سابع يسمى «باسبارتو»، اي صالح للتحكم عن بعد بأي جهاز، لكن ذلك كان فقط ليزيد من عدد الأجهزة المصفوفة على كنبتي فتصبح سبعة، لأنني كنت لأحصل بكل الأحوال، مع كل جهاز اشتريته على ريموت كونتروله. أي؟ مطرحك يا واقف. ست شركات، تشغل مئات لا بل آلاف العمال، والأرجح أكثر، إذا اخذنا في الحساب أن هناك من يصمم وهناك من يصنّع وهناك من يجّمع وهناك من يسوّق وهناك من يستورد وهناك من يبيع بالجملة وآخر بالمفرق، ملايين الوظائف تؤمّنها هذه الأجهزة العديمة الفائدة تقريباً، هذا غير البطاريات التي لها، لا شك، شركة مستقلة. عشرات الشركات خلف هذه الأجهزة، ملايين الوظائف وملايين لا بل مليارات الدولارات. كل هذا من أجل ماذا؟ كي لا أقوم من مكاني عن الكنبة وأكبس ..الزر؟
غداً، حين تقفل تلك المصانع لأن أحداً ما قرر استبدال الريموت كونترول بسلعة جديدة، تؤدّي الخدمة ذاتها، تماماً كما حدث مع «الدي في دي» والـ«سي دي» بدلاً من الفيديو وشريط الكاسيت، سلعة نستهلكها بكل طاعة عمياء لرب الاستهلاك العالمي، رب الشركات الكبرى، سلعة تتسبب لنا بزيادة في المصروف، وزيادة في السلبية والتبلد والكسل وعدم تشغيل الدماغ، وبالتالي مزيد من الكوليسترول والدهنيات وانخفاض الخلايا الرمادية في المخ، شيء يحيلنا الى ما يصفه الفرنسيون بأنه «حالة خضار»، في إشارة الى تحول المرء عن وظائفه الإنسانية الإبداعية الى مجرد شخص تتلخص كل وظائفه بالأكل والشرب والنوم والتنفس، عندها، ستقفل مصانع كثيرة في مكان ما من العالم، سيصرف عمال، أرباب عائلات بكاملها، عمال كل خبرتهم في الحياة تتلخص بكيفية صناعة الريموت كونترول، تنقطع أرزاق لا بركة فيها، لأنها بالأصل لوظائف غير حقيقية، لسلعة لا حاجة فعلية إليها. سيحصل كل هذا، لكن لا أحد منا سينتبه، فالمستهلكون، أي نحن، سيكونون مشغولين بتفحص الآلة، أو اللعبة الجديدة التي ستخلفها، والتي ستفبركها شركات جديدة تشغل عمالاً جدداً باختصاصات جديدة في أماكن اخرى من العالم. آلة جديدة لا نعمل شيئاً سوى أن نكبس فيها زراً، لتشغيلها، كي لا نقوم عن الكنبة، متمنين كما فعل ذلك التنبل من تنابل السلطان عبد الحميد، أن يكون هناك زر ليكبس الزر.