Strong>كانت رائحته تفوح قبل حلوله بأيام، تراه في عيون الأطفال الممسكين بأيدي أهلهم في السوق المفتوحة حتى منتصف الليل، مستقبلة زبائن يعج بهم المكان أتوا لينفقوا رواتب قبضوها مبكرين للقيام بأود العيد. لكن الأضحى أضحى عبئاً ككل بهجة في حياة اللبنانيين اليوم«لباس اليوم ودفاع بكرا». يرتفع صوت بائع العربة المدولبة في سوق طرابلس التي تكاد تخلو من الزبائن عشية العيد الكبير. «يزورب» البائع في الأحياء، منتقياً عبارات جذّابة «يا بلاش، قرّب عنا بضاعة وبالتقسيط». لكن قلة تلبي النداء.
عشية عيد الأضحى، خلت الأسواق. كانت قبل أيام تعج بالزبائن، من المتسوقين، ومَن جاء برغم الضائقة، جاء ويده على قلبه وجيبه لينفق «المينيمم». لا «عجقة» متسوقين وبائعين يعوّلون على أرباح العيد ولا حتى بهجة، مجرد بهجة.
طرابلس التي كان للعيد فيها مكانة خاصة، وحيث كانت ملامح العيد تظهر في الشوارع قبل ظهورها في هيئة المحتفلين، تبدو اليوم فاترة مهمومة. كل الطقوس اختصرت شيئاً فشيئاً: الزينة، الثياب الجديدة، الحلويات، وحتى الأضحية باتت سياسة «التقويت»، أي الاعتماد على ما هو متوافر بين أيدي المواطنين من إمكانات مالية لتقطيع مناسبة العيد، هي السائدة اليوم.
«الحاجة أم الاختراع، شو بدها الناس تعمل؟». بهذه العبارة يردّ مصطفى لبابيدي، صاحب محل سمانة في ساحة النجمة في طرابلس. يتنقل الرجل في محلّه من زاوية إلى أخرى، مشيراً بإصبعه إلى الأغراض التي لم تمسسها يد: الحلويات، المكسرات، الخضر والفاكهة. يقترب من أحد الأرفف، ويغرف بيديه حبات من الصنوبر المقشور، ويعلّق قائلاً: «حتى الصنوبر الذي كان يستعمل لحشو أقراص الكبّة استبدله الناس باللوز النيء أو الكاجو المكسر».
كل شيء تبدّل. حتى الصنوبر انقلب لوزاً زهيد الثمن. قد يصلح هذا «البديل»، لكون الكثيرين يستطيعون الاستغناء عن الصنوبر، لعدّهم إياه من الكماليات. لكن، ماذا عن اللحم الذي هو أساس العيد الكبير؟ عن هذا السؤال، يجيب العاملون في مسلخ طرابلس البلدي، فيشيرون إلى أن «ارتفاع أسعار اللحوم (بلغ متوسط سعر كيلو لحم العجل 20 ألف ليرة، والغنم 26 ألفاً) أدى إلى تراجع نسب مبيعه». لم يعد الكثيرون قادرين على شراء «كم كيلو» من اللحم، فكيف يشترون «أضحية» كاملة؟ هذا العجز يدفع بالفقراء إلى انتظار لحوم الأضاحي التي يوزعها عليهم المقتدرون أو الجمعيات الخيرية في المدينة.
بددت الضائقة الاقتصادية والمعيشية الفرحة بالعيد الكبير والحسرة بدت واضحة
أما الحلويات، فشأنها شأن اللحوم. وبعدما كانت عائلات كثيرة من الطبقات الفقيرة والمتوسطة تعمل على إعداد ما تحتاج إليه منها في البيت، انقطعت الآن عن ذلك أو خفّفت الكمية بعدما لحظت ارتفاع أسعار المواد الأوّلية الداخلة في صناعتها. وفي هذا الإطار، يفنّد مدير أحد مخازن التموين، محمود الصمد، أسعار بعض المواد الأولية والسلع، فيقول: «سعر كيس السكر وزن 50 كيلو ارتفع في غضون شهرين تقريباً من 25 ألف ليرة إلى 40 ألفاً، والطحين من 28 ألف ليرة إلى 42 ألف ليرة». يضيف: «كمان في زيادة لا تقل عن 30% لحقت بأسعار السمن والزيت وباقي المشتقات». أما راحة الحلقوم، «حلو الفقير»، فقد ارتفع سعرها في غضون أقل من شهر من 2800 ليرة إلى 3600 ليرة! أكثر من ذلك، يشير مسؤول محل مشهور لبيع الحلويات والباتيسيري في طرابلس إلى أنه «بسبب الضائقة المالية، لم تصل حركة البيع في المحل إلى 30% مما كانت عليه في عيد الفطر، ولا إلى 50% مما كانت عليه في عيد الأضحى العام الماضي، كل الأمور تغيرت ويبدو أنها مستمرة على هذا التدهور».
لكن، «مصائب قوم عند قوم فوائد»، فهذا الارتفاع غير المسبوق في الأسعار جعل البسطات والعربات الجوّالة والمحال الشعبية وجهة أساسية للمواطنين الباحثين عن حاجياتهم بأسعار تناسب فقرهم.
غيّر العيد هذا العام الكثير من العادات في المناطق. كما في طرابلس، كذلك في البقاع حيث بددت الضائقة الاقتصادية والمعيشية الفرحة بالعيد الكبير. فالحسرة بدت واضحة على الوجوه التي تجوب سوق «الطرش» في السوق الشعبية في منطقة دورس. حسين عمار، أحد هؤلاء المتحسرين «على إيام ما كنا نتسابق على شراء الكبش الأسمن والأضخم، أما اليوم فبالكاد نستطيع شراء حمل صغير، يعني كم كيلو لحم». يأسف الرجل، الذي لم يحظَ بطلبه المتواضع، «لأن غالبية العائلات في القرى البقاعية لن تضحّي ولو بفرخة، وربما أنا منهم، حيث سأكتفي بغداء للعائلة». لا تختلف حال محمد شمص عن حال عمار، فهو أيضاً سيجمع العائلة حول مائدة غداء، لا أكثر ولا أقل.
ويسأل: «مين صاحب العيلة اللي بدو يشتري خروف بسعر 200$؟». على ما يبدو، أن لا أحد قادراً على «التضحية» بمئتي دولار مقابل كبش صغير. وهذا ما يؤكده تجار المواشي. جودت شحيتلي يلفت إلى «أن حركة شراء خراف العيد معدومة». وقد عزا شحيتلي إحجام العائلات عن شراء الخراف لمناسبة عيد الأضحى، إلى «ارتفاع سعر الخروف الواقف (الحي)، بحيث لا يمكن رب العائلة أن يشتري خروفاً وزنه 30 كيلو، ليحصل على 10 كيلو لحم صافية».
لم يخالف أحمد حمية، صاحب قطيع أغنام رأي شحيتلي، مؤكداً أن الزبائن «بعد ما بيّن منهم حدا». ويقول: «الظاهر إنو الحال السنة أشبه بالسنة الماضية وما رح نضرب ضربة». يومان وينتهي الأمل بالنسبة إلى غالبية تجار المواشي، إلا أن ثمة من يعوّل منهم على إياب الحجاج من السعودية، فقد لفت علي شومان إلى «أنه لم يبق لنا إلا أن ننتظر عودة الحجاج، الذين تضطر عائلاتهم إلى شراء خراف لنحرها عند مداخل منازلهم، إلا إذا فعلت الضائقة المادية فعلها».
على ما يبدو، فإن الضائقة الاقتصادية لم توفر أحداً، ففي قرى بنت جبيل يعاني المواطن والتاجر: فالأول غير قادر على شراء احتياجاته والآخر لا يستطيع تصريف بضاعته. فعلى غير العادة، خلت بسطة أبو رفيق ظاهر (كفركلا) من الزبائن. وهو من اعتاد أيام العيد أن «يردّ سعر البضاعة وزيادة». ويقول بحسرة «لا أعلم ماذا يجري لمصالحنا، ففي مثل هذه الأيام، كانت تصل قيمة مبيعاتي في سوق الأربعاء في بلدة الطيبة الى نحو 700 ألف ليرة، أما اليوم فقد وصلت قيمة المبيع إلى 200 ألف ليرة فقط». ويقول المواطن عبد الرؤوف شرف الدين إن «جميع أبناء هذه المناطق يعتمدون على الزراعة والوظيفة، وبالتالي لا يستطيعون شراء الثياب والحلوى لأطفالهم». ثمة هاجس آخر غير المال، فبعض الناس خائفون من تفجر الوضع الأمني في العيد، وتشير خديجة فقيه (الطيري) إلى أن «الجميع هنا يحلّل ويراقب ويخاف من أي تدهور أمني، خصوصاً أننا قريبون من الحدود مع إسرائيل، لذلك لا مكان للعيد بيننا، وكلّ همّنا أن تمضي هذه الأيام بدون أية متاعب إضافية». ضائقتان مادية وأمنية تحرمان الناس من الفرح. ولا يبدو أن أية واحدة منهما في طريق الحلحلة، لا سيما أن الأسعار في ارتفاع مستمر و«اسرائيل دايماً جارة»، كما يعلق أحد الجنوبيين.
(عبد الكافي الصمد ـ خالد الغربي ـ رامح حمية ـ داني الأمين)


البسطات «حلّالة العقد»

بارد العيد الكبير في المناطق، وخصوصاً في صيدا. ففي المدينة التي كان الاحتفال فيها بالعيد «غير شكل»، بدأ الناس يحسبون ألف حساب لصرف القرش. لكن، على ما يبدو أن الحاجة أم الاختراع في المدينة، فقد دفعت قلة السيولة في أيدي معدومي الحال من المواطنين لترتيب أمورهم بما تيسر. لذلك شهدت محال تصليح الأحذية إقبالاً لافتاً «أحسن ما إدفع عشرين ألفاً ثمن الحذاء، صلحت حذائي القديم بألفي ليرة»، يقول أحد المواطنين. أكثر من ذلك، تحولت محال بيع الألبسة المستعملة «الباله» إلى خيار عملي لجيوب المواطنين، نظراً لكون أصحابها يبيعون بضاعتهم بثمن زهيد. ولئن كان الناس يفضلون «القديم» على «الجديد»، إلا أن أصحاب محال السوق حاولوا جذب هؤلاء إليها. فقد وضعوا على واجهات محالهم إعلانات تقول «لمناسبة العيد، المبيع بالتقسيط ومن دون فائدة». مع ذلك، لم يقصدهم الناس، وقصدوا «حلالي العقد»: أصحاب البسطات والعربات المدولبة الذين ذرعوا شوارع صيدا ذهاباً وإياباً، محفزين الناس على الشراء بسعر زهيد يناسب الإمكانات.