إنسانية واجتماعية وقانونية وقضائية، انطلاقاً من هذه الصعد، عقدت جامعة القديس يوسف مؤتمراً عن أوضاع السجون في لبنان. كل الحاضرين من خبراء واختصاصيين أجمعوا على الحالة السيئة؛ فمنهم من كرر المُكرَّر، ومنهم من طرح جديداً، لكن يبقى السؤال الأهم: هل تجد هذه الطروحات في يوم ما طريقها إلى التنفيذ؟
محمد نزال
«هل من الممكن تحسين ظروف عيش السجناء في لبنان؟». سؤال بات مألوفاً لدى اللبنانيين، وربما مملاً ومستهلَكاً لدى البعض منهم. لكنه هنا ليس مجرد سؤال، بل عنوان لمؤتمر عقدته جامعة القديس يوسف، أمس، في بيت المحامي في بيروت. هكذا، قرر رئيس الجامعة رينيه شاموسي أن يكون العنوان متواضعاً، لمؤتمر ضم وزراء وقضاة وخبراء وجمعيات ناشطة في قضايا السجون وحقوق الإنسان.
ليس جديداً ما ورد على ألسنة بعض المتحدثين أمس، لناحية أن السجناء يعيشون ظروفاً صحية رديئة بسبب نقص الموارد المالية، وغياب برنامج جدّي لإعادة تأهيلهم، وهم الذين يصل عددهم في لبنان إلى 6000 سجين تقريباً، موزعين بين سجن رومية المركزي وسجون أخرى في الأطراف. غير أن المؤتمر شهد بعض الطروحات الجديدة، مثل الإشارة إلى ضرورة وضع مسوّدة قانون جديد لإدارة السجون، ومكننة ملفات السجناء وعملية ربط إلكتروني بين السجون المركزية ووزارة العدل، إضافة إلى تدريب الكادر البشري المتخصّص في إدارة السجون، وغير ذلك من الطروحات.
حضر المؤتمر، إضافة إلى رئيس جامعة القديس يوسف، كل من وزير العدل إبراهيم نجار، وزير الشؤون الاجتماعية سليم الصايغ، وزير الداخلية والبلديات زياد بارود، ممثلاً بالدكتور عمر نشابة، نقيبة المحامين في بيروت أمل حداد، إضافة إلى عدد كبير من القضاة والمحامين وطلاب الجامعة. لم يجزم أي من الحاضرين بأن حقوق السجناء الإنسانية، التي حُكي عنها كثيراً في مؤتمرات سابقة، ستُحقَّق كلها بين ليلة وضحاها، لكن غاية الأمر كانت في «تسليط الضوء على وضع السجون في لبنان، وعلى المسألة الحساسة المتعلقة بإعادة تأهيلهم الاجتماعي»، حيث أخذ هذا الموضوع قسطاً وافراً من جلسات النقاش في المؤتمر.
في كلمة الافتتاح، دعا الوزير نجار إلى التحرك وبناء سجون جديدة وخصخصة المرافق التقنية، وتشجيع ليس فقط تطبيق قانون خفض مدة العقوبة، بل قانون تنظيم العقوبات أيضاً، إضافة إلى خلق بنى جديدة في وزارة العدل. وأشار نجّار إلى وجوب السهر على تطبيق المعاهدات الدولية وتعهدات لبنان في هذا الإطار. لذلك، أُطلقت أخيراً ثلاث مبادرات: الأولى عبارة عن مشروع قانون لتنظيم مدة العقوبة، لإدخال معايير بديلة في مجال الحجز وتنفيذ العقوبات. أما الثانية، فهي إنشاء مديرية عامة للسجون في وزارة العدل، تحل محل تلك الصدفة الفارغة المسماة إدارة السجون. أما المبادرة الثالثة، فهي دعم مشروع قانون لإنشاء مديرية عامة لحقوق الإنسان والحريات في وزارة العدل.
نجّار: يجب السهر على تطبيق التعهدات الدولية للبنان في موضوع أوضاع السجون
«هل يعود المحكوم عليه بالسجن إلى الجريمة بعد إخلاء سبيله، أم يكتسب خلف القضبان حيَل الإفلات من الضابطة العدليّة من خلال معايشة «خبراء» الجريمة وشبكاتها، أم يتحوّل الأمر إلى قضية حقوقيّة بسبب سوء ظروف الاحتجاز، أو بسبب تأخّر إثبات ارتكاب الذنب أو عدمه؟». بهذه الأسئلة استهل وزير الداخلية والبلديات زياد بارود كلمته في المؤتمر، لافتاً إلى أن مشكلة السجون في لبنان، وإدراجها في وزارتي الداخلية والعدل ضمن برنامج الإصلاح (بحسب البيان الوزاري للحكومة الحالية) يفترضان السعي إلى تطوير مفهوم عدليّ حديث في لبنان، إذ يعتمد هذا المفهوم التوازن بين المنفعة العامة من جهة، والتزام القواعد الحقوقية من جهة ثانية، ويستدعي التركيز على نتائج طويلة الأمد. تضمت كلمة الوزير بارود إشارة إلى إطلاق الوزارة مبادرات لتحسين الأوضاع المعيشية في السجون، مع العمل على وضع استراتيجية بناءً على نتائج مسح شامل للسجون الـ24 في لبنان، التي تخضع لسلطة وزير الداخلية بحسب القانون.
من جهتها، رأت نقيبة المحامين في بيروت أمل حداد في كلمتها، أن مشكلة السجون التي طال أمدها، تظهر من النظرة الأولى كأنها غير قابلة للحل، لاصطدامها بعوائق إدارية ومالية، تزداد صعوبة بسبب الشلل التشريعي والصراعات السياسية. كذلك إن مشكلة السجون تتصل بمواضيع الحريات العامة والأوضاع الاجتماعية والصحية. وكان لافتاً ما ذكرته حداد لناحية اعتبارها أنّ على المحامي «التأكد من أن السجين يمضي عقوبته في ظروف لائقة بعد إصدار الحكم، وأن يحصل على العناية الطبية ويستفيد من برامج إعادة الدمج». لكن كلام حداد يأتي معاكساً لكثير من شكاوى المواطنين تجاه بعض المحامين، وتحديداً من ذوي السجناء الذين يقاسون ألم إجراءات سجن ولدهم، إذ ينهي بعض المحامين العلاقة كلياً بموكلهم بمجرد صدور الحكم القضائي، بعد أن يكونوا قد أخذوا مبالغ مالية بدل أتعابهم، التي غالباً ما يكون الأهالي الفقراء قد استدانوها أو باعوا في مقابلها بعض ممتلكاتهم أو شيئاً من الأثاث الرث في منازلهم.
وفي تفاصيل المؤتمر في بيت المحامي أمس، بعد انتهاء الكلمات الافتتاحية، عُقدت جلسات نقاش تناولت مواضيع مختلفة. ترأس الجلسة الأولى رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي غالب غانم، حيث تمحور النقاش حول دور الكليات والمؤسسات في جامعة القديس يوسف في موضوع السجون. تحدثت في الجلسة السيدة ميشال قصرملي، ومدير مستشفى «أوتيل ديو» يوسف عتيّق، ومدير قسم دراسات الدكتوراه فادي جعارة.
أما الجلسة الثانية، فترأسها وزير العدل الأسبق بهيج طبارة، قورن خلالها النموذج اللبناني بالنماذج الدولية للسجون. تحدث في الجلسة المتخصص في مسألة إدارة السجون، عمر نشابة، عارضاً رؤيته لتعديل نظام السجون في لبنان مقارنة بالمعايير الدولية، لافتاً إلى أنّ فريقاً من الباحثين الأكاديميين يجرون حالياً دراسة شاملة عن أوضاع السجون في لبنان، تتضمّن وصفاً دقيقاً لمبنى كلّ سجن وبنيته التحتية، وتقويماً للوضع القانوني لكلّ من السجون، إضافة إلى استطلاع لنظرة رئيس السجن والموظفين والسجناء. حضر المؤتمر ممثل عن وحدة الشرطة الوطنية الفرنسية، فتحدث ضمن الجلسة عن أساليب معالجة الأزمات داخل السجون، وهي مشكلة غالباً ما تواجهها السجون اللبنانية. وعند مباشرته وصف السجون الفرنسية، لم يكن بإمكان الحاضرين سوى الشعور بالأسى على حال السجناء في لبنان؛ ففي فرنسا تتبع السجون لوزارة العدل منذ عام 1911، ويوجد 9 مناطق مخصصة لأماكن الاعتقال تضم 115 سجناً، منها 60 مخصصة فقط لاستقبال المحكوم عليهم، حيث لا يُخلط هناك المحكوم بالموقوفين احتياطياً.
وختم الشرطي الفرنسي بالإشارة إلى أن في بلاده 13 سجناً مخصصاً لاستقبال السجناء الذين شارفت مدة محكوميتهم على الانتهاء، وذلك لتأهيلهم قبل خروجهم إلى الحرية، بغية إعادة دمجهم في المجتمع.


ملفات طبية للسجناء

لم يغب موضوع الصحة الجسدية والنفسية، أمس، عن المؤتمر الذي عقدته جامعة القديس يوسف وتناول أوضاع السجون في لبنان. فقد ذكرت ممثلة منظمة الصحة العالمية، الدكتورة أليسار راضي، أن ما تحتاج إليه السجون في لبنان على المستوى الصحي هو أكثر بثلاث مرات عمّا هي عليه اليوم، مشيرة إلى ضرورة التوعية الصحية للسجناء وكذلك الحرس، الذين هم بدورهم معرضون لانتكاسات صحية، إضافة إلى تلقي العاملين في السجون تدريبات خاصة، منها كيفية رعاية الصحة النفسية للسجناء. بدوره، لفت المدير العام لمستشفى «أوتيل ديو» الدكتور جوزف عتيّق، إلى وجود نقاط سلبيه في أوضاع السجون حالياً، منها: عدم وجود ملفات طبية للسجناء، عدم إرسال السجينات إلى أطباء متخصصين في شؤونهن، الأمراض الكثيرة الموجودة، عدم الاهتمام بطب الأسنان، خاتماً باقتراح مكننة الملفات الطبية للسجناء. أما الدكتور فادي جعارة، نائب عميد كلية الهندسة في جامعة القديس يوسف، فقد أشار إلى وجود جناح خاص للسجناء في مستشفى ضهر الباشق الحكومي، هو عبارة عن 5 غرف تتسع لـ 18 مريضاً.