أكبر من القتل، وأعظم منه، تلك هي الفتنة كما يعرفها الناس. يكثر هذه الأيام الحديث عنها. رغم هذا الخطر الداهم، لا يبدو أن للقضاء قدرة على وأدها في المحاكم، مع أن القانون يزخر بالمواد التي تتحدث عن عظيم جرمها
محمد نزال
ثمة فتنة مقبلة على البلاد. لا لن تحصل الفتنة. عبارتان تتناقلهما ألسن الناس في لبنان، بإسهاب بارز في الآونة الأخيرة، حتى بات الحديث عن الفتنة لغة مشتركة بين الأفرقاء المختلفين والناس المهمومين، وإن كان كلٌ من منطلق وجهة نظره، أو بمعنى أدق، بحسب ميوله السياسية والحزبية أو الطائفية. لكن بعيداً عن السجال السياسي الذي لا ينتهي، يبرز سؤال عن معنى الفتنة وماهيتها في القانون، وعن العقوبات التي وضعها المشرّع لهذه الغاية، إضافة إلى السؤال عن دور القضاء في هذا الصدد. قد يُقال إن القضاء اليوم تابع للسياسة، وهذا ما لا ينكره المسؤولون القضائيون، وإن كانوا يرفضون التعميم، ومع ذلك «يبقى من الأهمية بمكان التذكير الدائم بنظرة القانون إلى الفتنة، وإلى من يُحركّها، حيث خصّص المشرّع لهذا الموضوع أقسى أنواع العقوبات على الإطلاق، لمعرفته الضمنية بأن الفتنة تمثّل خطراً شاملاً على أرواح العباد وهوية البلاد». هكذا عبّر أحد المسؤولين القضائيين.
في الإطار التشريعي، وُضعت في قانون العقوبات نبذة خاصة بعنوان «في الفتنة»، ونبذة ثانية بعنوان «في النيل من هيبة الدولة ومن الشعور القومي»، وثالثة بعنوان «في الجرائم التي تنال من الوحدة الوطنية أو تعكّر الصفاء بين عناصر الأمة». وفي تفصيل هذه النبذات، نصّت المادة 308 من القانون المذكور على أنه يعاقب بالأشغال الشاقة مؤبداً، على الاعتداء الذي يستهدف «إما إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي بتسليح اللبنانيين، أو بحملهم على التسلح بعضهم ضد البعض الآخر، وإما بالحض على التقتيل والنهب في محلة أو محلات». يُشار إلى أن هذه العقوبة مخصصة للإثارة والحض فقط، أي إنها تظل واقعة حتى لو لم يحصل الاعتداء فعلاً. أما إذا حصل أن وقعت الفتنة «فيقضى بالإعدام». أما المادة 295 من القانون نفسه، فتنص على أنه «من قام في لبنان في زمن الحرب، أو عند توقع نشوبها، بدعاية ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إلى إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية، عوقب بالاعتقال المؤقت». ومدّة هذه العقوبة تتراوح من 3 أعوام إلى 15 عاماً. كذلك تحدث القانون عن عقوبة مماثلة بحق من نقل في لبنان في الأحوال عينها، أنباءً يعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها «من شأنها أن توهن نفسية الأمة». في هذا السياق، قد يسأل البعض ماذا لو كان ناقل الأنباء غير كاذب، هل يُعاقب أيضاً؟ اللافت أن الجواب عن هذا السؤال هو نعم، يُعاقب. فبحسب الفقرة الثانية من المادة 296 من القانون نفسه، فإن الحبس مدّة ثلاثة أشهر على الأقل هو العقوبة «إذا كان الفاعل يحسب هذه الأنباء صحيحة». أحد المتابعين للشؤون القضائية يتوقف عند هذه المادة، فيرى أن المشرّع «ربما تعمّد القسوة في الحكم، حتى على من لا نيّة كذب لديه، نظراً إلى خطورة الأمر وشمولية ضرره، وبالتالي يأتي نص القانون بمثابة تنبيه وتحذير لكل من يريد اللعب على هذا الوتر».
يُحكم على مثير النعرات المذهبية والعنصرية بغرامة مالية، وبالمنع من تولّي الوظائف والخدمات في إدارة شؤون الطائفة المدنية
لا ينتهي أمر الفتنة في القانون عند هذا الحد، فقد طال التشريع المتعلق بالفتنة بعض الأفعال الأخرى، التي قد يرى البعض أنها أمور هامشية وغير مؤثرة، أو لا داعي للوقوف عندها، لكن للقانون في ذلك رأي آخر. فمثلاً، تنص المادة 317 من قانون العقوبات على أن «كل عمل، وكل كتابة، وكل خطاب، يقصد منها أو ينتج عنها إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة، يعاقب عليه بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات». لم تنته العقوبة هنا، فبحسب القانون، يُحكم أيضاً على مثير النعرات المذهبية والعنصرية بغرامة مالية، وبالمنع من تولّي الوظائف والخدمات في إدارة شؤون الطائفة المدنية، أو إدارة النقابة التي ينتمي إليها، كذلك يُحرم من أن يكون ناخباً أو منتخباً في جميع منظمات الطوائف والنقابات.
إذاً، هذه هي الفتنة بحسب القانون. أما بحسب الواقع، فالكلام مختلف. لا يحتاج المرء إلى بذل جهد لملاحظة وجود تحريض طائفي ومذهبي في لبنان، فهذه تهمة يتبادلها الأفرقاء باستمرار، إذ تضج بعض البيانات والمؤتمرات الصحافية والخطب الرنانة بكلمات «شدّ العصب المذهبي»، التي تتطور أحياناً إلى تخوين الآخرين بل تكفيرهم ورمي الحرم عليهم، ما يُعدّ دعوة إلى القتل وهدر الدم. أما في ما خصّ إضعاف الشعور القومي وإيقاظ النعرات في زمن الحرب، أو عند توقّع نشوبها، فقد رأى البعض أن هذا قد حصل إبان العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006 وما زال يحصل حتى الآن، «لأن الحرب الإسرائيلية على لبنان متوقّع نشوبها دائماً». في هذا السياق، ثمة سؤال يبرز في هذا الصدد: لماذا لا تتدخل النيابة العامة التمييزية لوضع حد لهذا الأمر، وخاصة أن من واجبها المبادرة إلى الادّعاء في هذه الجرائم، حتى لو لم يدّع أحد المتضررين؟ من جهته، يجيب النائب المحامي هادي حبيش عن هذا السؤال، فيرى أنه لو قررت النيابة العامة أن تدّعي في هذه القضايا، فعندها، ربما لن يبقى أحد في لبنان خارج السجن. ويضيف حبيش في حديث مع «الأخبار» قائلاً: «عندما وُضع القانون، لا أظن أن مخيّلة المشرّع كانت تتسع كفاية لتوقّع ما يحصل الآن من فتن. للأسف، الدولة الآن فالتة، والتراخي من قبل القضاء بالتعامل مع هذه القضايا قد أدّى إلى استسهال الناس الخوض فيها».
بدوره، يجيب النائب المحامي نوار الساحلي عن السؤال بكلمة مباشرة: «للأسف، هذا يحصل لأننا في لبنان»، لافتاً إلى أن كثيراً من مواد القانون قد أصبحت «حبراً على ورق». وفي حديث له مع «الأخبار»، رأى الساحلي أن الفتنة تصيب كل البلد، ولكن «للأسف، فإن القضاء يتحرك في هذه الحالات عندما تقرر السلطة السياسية ذلك بناءً على مصلحتها، علماً بأنه بحسب القانون، يجب على النيابة العامة المبادرة إلى الادّعاء، وإلا عُدّ تقصيراً منها»، مستشهداً بقضية «شهود الزور الذين لم يُدّع عليهم رغم أنهم أثاروا النعرات الطائفية والمذهبية، ونالوا من الوحدة الوطنية، وهذه من الجرائم التي تعكّر الصفاء بين عناصر الأمة، على حدّ التعبير القانوني».


بين القانون والسياسة

تزخر المنابر وشاشات التلفزة ومختلف وسائل الإعلام بإطلالات لشخصيات سياسية وإعلامية. يثير بعض هؤلاء نعرات طائفية ومذهبية، وأحياناً يدعون إلى الفتنة بطريقة مبطنة، بل وعلانية في بعض المرات. النيابة العامة التمييزية تعلم بذلك، والمسؤولون القضائيون لا ينكرون وجود هذا الأمر، ولكن عند سؤال مسؤول قضائي رفيع عند سبب عدم المبادرة إلى وضع حدّ، بحسب ما يجيز القانون، للدعوات التي تستدعي الفتنة وتعكّر أجواء الوحدة بين عامة الناس، يجيب باختصار: «دعنا من هذا الموضوع، فإن أي كلام سيفسّر الآن على غير النحو المقصود، ولذلك فليبق الكلام للقانون». حسناً، تُذكّر «الأخبار» المسؤول بما ينص عليه القانون، فلا ينكر ذلك، فتسأله عن أسباب عدم فعل شيء من جانب القضاء، فيقول: «لا تسألوا لماذا، فسؤال كهذا لا يمكن الإجابة عنه إلا من خلال التطرق إلى الموضوع السياسي، وهذا ما لا أريده في الوقت الحالي». إذاً، شتّان ما بين الكلام النظري (النصوص القانونية) والواقع المعيش. وبين هذا وذاك، يبقى المواطن أسير الخوف من الفتنة التي ما زالت تتأرجح، بنسختها الجديدة، منذ نحو 6 سنوات.