رنا حايكلم تنعم الطفلة طويلاً في كنف والدها. سرعان ما توفي عام 1926، بعد ولادتها بأربع سنوات. بعدها، قدّمت لها عمتها كل الرعاية، و«بعض الأراضي التي كنا نملكها في فلسطين ومصر». رحيل الزوج لم يدفع دونا ماريا إلى اصطحاب ابنتها الوحيدة والعودة إلى إيطاليا. كيف تترك بيتها؟ لدى هذه العائلة، يكتسب البيت معانيَ تتجاوز ما يجسّده عادة من أمان واستقرار. لدى هذه العائلة، يصبح البيت إرثاً ثقافياً، وهويةً وطنية وانتماءً طبقياً.
لذلك، حين بلغت الـ12 من عمرها، وأبعدتها والدتها عن بيروت بسبب الاضطرابات عشية معارك الاستقلال، غزتها الكآبة وهي تتفرّج من نافذة غرفتها في المدرسة الداخلية: «حسدت الفلاحين البريطانيين وهم يعودون من الحقول بعد يوم عمل طويل إلى... بيوتهم».
بعد أعوام طويلة، ستكتشف الصبية أن البيوت محور حياتها. في عام 1940، أعادتها والدتها إلى بيروت وأدخلتها مدرسة سيّدة الناصرة حيث نالت شهادة البكالوريا، قسم الفلسفة، ثم التحقت بكلية الآداب. خلال تلك الفترة عادت تلتقي حبيب طراد، الوصيّ الذي اختارته العائلة لها بعد وفاة والدها. صحيح أنّ زياراتها كانت قليلة إلى بيته، «لأنّ البيت مثل البراد، وما في chauffage» كما تقول ضاحكة، لكنها في تلك الليلة من عام 1946، لبست معطفاً ثقيلاً، وقفازات، وذهبت للعشاء في منزله.
هناك، التقت بالمتطوّع في الجيش الإنكليزي السّير ديسموند كوكرين الذي سيصبح زوجها في العام نفسه. ببراءة وبصراحة لافتة، تقول «ما حبّيتو كتير. كانْ شخصْ لطيف». بعد 30 عاماً على وفاته، لا تزال تضحك حين تتذكّره اليوم. الليدي وفية للقيم التي تفتقدها اليوم في بيروت، حيث «ما عاد في شي إلو قيمة إلا المصاري». من بين تلك القيم، هناك العائلة إلى جانب الأخلاق والثقافة والفنون. ومن أجل عائلتها، تنازلت الليدي عن شهادتها من كلية التنظيم المدني في بريطانيا التي التحقت بها بعد انتقالها مع زوجها للإقامة. أتمّت سنوات الدراسة، وبقي التدريب الذي كان عليها أن تجريه في بلد آخر. يومها، رفضت الابتعاد عن أبنائها، وتنازلت عن الشهادة، لكن ما تعلمته لم يذهب سدىً.
بعد عودتها إلى بيروت، آلمها منظر «مدينة راحت». لم تعد تفارقها العاصمة اللبنانية حتى في أصعب مراحل الحرب الأهلية. تؤكّد لنا أن «كلّ العائلات الكبيرة بقيت، وسافر الـnouveaux riches». المدينة التي قضت فيها الليدي «أسعد طفولة»، «كانت أحلى مدن المتوسط بهندسة بيوتها وطبيعتها الخلابة». لكنّها أخذت فجأة تبدّل جلدها. هنا، لا تتحدث الليدي عن قصور الطبقة التي تنتمي إليها فحسب، بل عن منازل «الناس العاديين» التي كانت تحتفظ بالحد الأدنى من الجمالية، منها منزل مقابل قصرها أخذت حجارته بعدما هدموه، وأعادت استنساخ واجهته، كبناء منفصل في حديقتها الخاصة. مكان ذلك البيت، يرتفع اليوم برج يناطح السماء.
أنشأت الليدي عام 1960 جمعية APSAD للحفاظ على المواقع الطبيعية والمباني التراثية في لبنان. كانت أول رئيسة لها، وبقيت حتى عام 2003 حين تنازلت عن المنصب، كي يأتي «شخص جديد، بأفكار جديدة». تظلّ تلك التجربة غالية على قلب الليدي، رغم الإحباطات التي تخللتها. الدراسة الإحصائية عن مباني بيروت القديمة التي أجرتها الجمعية عام 1996 بناءً على طلب وزير الثقافة آنذاك ميشال إده، لم يُستفد منها، ولا من المشاريع التي تقدمت بها الجمعية طوال سنوات... فالبرلمان فيه «بعض الأعضاء المتمدنين فقط. لذلك لم تُسنّ حتى الآن قوانين للمحافظة على الأبنية التراثية». بهذه الطريقة المهذّبة، تختصر الليدي وضع الحيّ بعد أن بات البلد لقمة سائغة في فم المقاولين والسماسرة.
لكنّها تكمل نضالها على طريقتها. تعطي محاضرات توعية عن التراث من هنا، تصدر كتاباً عن قصر سرسق من هناك (توقّع كتابها غداً في معرض الكتاب الفرنكوفوني). تقول: «لا أعرف ماذا سيحلّ بهذا القصر بعد 30 سنة». تكتب في السياسة، وتكتب شعراً بالفرنسية اكتشفه صديقها الصحافي غسان تويني منذ سنتين، فنشره في كتاب Autrefois.
تنتهي المقابلة ولا ينتهي الحديث مع شابة ثمانينية متألقة تأسف على شيء واحد في حياتها: لم يتسنّ لها زيارة البلدان التي كانت تودّ زيارتها. أسف آخر يُستشَفّ من نبرتها المتحفظة: الأعراس والإعلانات والفيديو كليبات التي تصوَّر في الحديقة، لا تروقها، لكنّ ابنها يرى في تأجير الحديقة مردوداً مادياً ضرورياً للحفاظ على القصر. لا تزال الأرستقراطية الجميلة تغار على قصرها... ولا تنام.


5 تواريخ

1922
الولادة في بيروت

1946
زواجها من المتطوّع في الجيش الإنكليزي السير ديسموند كوكرين

1960
أسّست جمعية APSAD للحفاظ على المباني التراثية في لبنان

2008
صدور ديوانها Autrefois

2010
صدور كتاب «قصر سرسق» Palais Sursock الذي تُوقّعه عند الخامسة من مساء الغد في «معرض الكتاب الفرنكوفوني» (جناح «مكتبة البرج»)