هنغاريا ـــ عمر الديبيعيش رشاد اليوم في أحد أحياء العاصمة البرتغالية لشبونة. حملته إليها ظروف الحياة الصعبة ولبناننا الذي لا يتسع لكل أبنائه. يمتلك الرجل الستيني مطعماً يكفيه ليحيا كريماً مع زوجته وأولاده. هجر اقتصاد لبنان وجغرافيته، ولكن لم يهجر ثقافته وتقاليده، فيفاجئك أبناؤه، الذين ترعرعوا في البرتغال وقلما زاروا لبنان، بلكنتهم الجبلية الصافية، التي لم تعد تجدها حتى في جبال لبنان وجروده. العربية هي اللغة الرسمية في البيت، أما اللغة البرتغالية فيمنع الكلام بها خارج العمل. قانون سنّه رشاد منذ وطأ أرض الغربة منذ اثنين وثلاثين عاماً. قانون لم يخضع للتعديل لا بالنصف ولا بالثلثين ففاق الدستور اللبناني متانة واستمرارية!
كأيّ لبناني تلتقيه، في لبنان أو في الخارج، يكون مدخل الكلام السياسة وطقوسها اللبنانية. لكن ما قصدته مدخلاً لتعارف ساد لثلاثة أيام لم ينقطع فيها النقاش والحديث. وجدت في رشاد المناضل الذي انضم منذ صباه إلى تيار لبناني مرتبط بتنظيم يساري فلسطيني، وقاتل معه في سنوات الحرب الأولى محملاً بكل الأحلام عن فلسطين والثورة والاشتراكية. لكن الحلم سرعان ما أصبح كابوساً عندما تحوّل كل شيء إلى صراع طوائف. خلال سنتين، ضاع الحلم وصار رشاد أباً وأصبح العمل ضرورة بعدما كان مسألة ثانوية يقوم بها أثناء انشغاله عن أحلام الثورة. اليأس والمسؤولية وضيق الأفق في لبنان رمت به إلى الهجرة. دبي كمحطة انتقالية ثم البرتغال بعد سنوات قليلة. اختار البرتغال لأنه ليس فيها لبنانيون يوقظون أفكاره وأحلامه. هجرة كالهروب من واقع يعرف أنّه لن يستطيع أن يخرج منه، فأجبر نفسه على الهرب.
تكلمت معه عن نضال الرموز من أمثال جورج حبش وجورج حاوي ورفاقه الشهداء والأحياء وعن فلسطين والعروبة، فكان نهماً وعاطفياً، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها الدمعة في عيني رجل ستيني. مكانه المفضل للاستجمام هو قلعة العرب في لشبونة، وهي ما بقي من أيام العرب في الأندلس، لغته هي العربية، طعامه لبناني وتلفازه لا يلتقط إلا القنوات اللبنانية والعربية.
قد يهاجر بعض المناضلين هرباً لكنه كهروب المؤمن من القدر، إذ تقوده الأفكار إلى ما كان يهرب منه بالتحديد.