سمير يوسفأحدهم رمى معطفاً لاذورديّاً على المدينة غطاها بطولها وعرضها. لم تعوِ الكلاب المشرّدة بل علا أنين البشر، زنانير النار سفكت ما بقي من بشائر على وجه الرياح الدوّارة وصَبّ الحرّ صيفاً بكامله على سجنائه الجدُد. رجعتُ للدار. كان هناك على ما أذكر، شجرة طريّة لكنّها الآن انتقلت لجهة البحر، ذهبَت يوم قدّمتُ فيه باقة الأسرار لشجرات أخريات عند بحر الشمال الأوروبيّ. كلّ ما أذكره أن هذه المدينة كانت منعشة في ما مضى إلّا أنّها اليوم تحملُ إناء الرطوبة والغيوم الحمراء. رجعتُ للدار وعلمتُ أنّ زنبقتي التي رست على سطح العاصمة ذبلت وما عادت تتكلّم. أقرأ الجريدة. لن أعرف من بكى تحت شعاع الشمس الحارق، ولن يكون هذا ذنب الصحافة. فشمس الصيف كانت كالتنور العتيق، حرقت بأقسى سرعة الملح عن الوجنات الباكية. الماضي لا يهمّني. ماذا يجب علينا أن نقدّم لشهر تشرين؟ كيف نردّ له الجميل أو كيف نكرمه حتى يحلّ الخريف الداكن الحقيقي؟ أيكون من الخطأ أن نخرج إلى الشوارع لندقّ الطبول ونحتفل ونقدّم الذبائح كشعوب العالم القديم؟ ماذا ينقصنا كيْ نكون كحضارات «المايا» أو «الإنكا»، ما المانع اليوم من أن نشعل فرو «الرنّة» وهو أكثر من أساسيّ لمن يعيش في سيبيريا؟ أيكون البدوي في سيبيريا أيسرَ حالاً منّا؟ لماذا لا يكون لنا «أقنوم» واحد للطبيعة؟ أمنَ الجيّد أن نزهد بالأرض كما قال رسول الله والمسيح حتى نكسب جنّات السماوات وحورياتها؟

في نومنا يتساقط المطر من دون تفاوض ولا مناوشات

أحدهم، رمى منذ أكثر من 4 أشهر معطفاً لاذورديّاً على المدينة غطاها، مسحَنا جميعاً بلهبه وفتّت الكثير من الحيويّة في صدورنا. لكن ها هو تشرين يثور ببطء شديد وبنعومة، يطرق باب «بوسايدون» وغربَ البحر، يحدلُ رتلُه تجاه سماء «زيس» يملؤها غيوماً وتيّارات، وفي نومنا، ومن دون أن نشعر به على الإطلاق، يتساقط المطر، نقداً، من دون مناوشات ولا إشارات ولا ملحقات، من دون «شويّ شويّ»، من دون أن ننتظره أو أن نفاوضه.
بعد حين، نستيقظ لنجد المدينة ترفّ في أرضها كسمكة كانت خارج حوضها ورُميت بدلو من الماء المنعش. «خيّ». نرى المشهد من دون حسّ كما في سينما مشهديّة، ونبصق من معداتنا «عبقة» النار ودخانها. أرصفة الحمرا المرتّبة أو منافس الضوء في حي النبعة، كورنيش البحر الذي تعبت جذوره من موج الملح، زيتون الجبال وكهوله، الكلّ فرح بعودة العليل وربّما أكثر من أيّ سنة مضت. علينا أن نمدح تشرين أكثر، علينا أن نقيم كارنافالات وأعراساً، أن ننزل عراة إلى الشوارع، أن نخبره كم اشتقنا إلى المطر وكم أنّ حبّه كريم علينا.
علينا أخيراً أن ننصب صنماً كبيراً له ونعبده لأنّه لا ضير إن كنّا وثنيين للحظات، أن نركّب جداريّات هائلة الحجم كتبنا عليها: «هكذا يكون الحبّ، نقداً لا بالتقسيط»