لم تنته حرب تموز. آثارها البشعة حاضرة دائماً، وبقوة، وحضورها هذه المرة يتخطى الدمار الهائل الذي أصاب المنازل والبنى التحتية ورعب القنابل العنقودية المنثورة في كل مكان، ليطال حياة أكثر من 1500 طفل ما زالوا يعيشون بين أنقاض دمار صعب إعادة إعماره
بنت جبيل ــ داني الأمين
1500 طفل جنوبي يعيشون على أنقاض حرب عاثت فساداً في حياتهم منذ ثلاث سنوات ولا تزال. فعلى الرغم من انتهاء هذه الحرب منذ فترة بعيدة نسبياً، إلا أن صورتها لا تزال ماثلة في ذاكرة الأطفال الذين رأوا الموت والقصف والدمار على مدى 33 يوماً متواصلة. وقد يكون مشهد الدمار الذي خلّفته الاعتداءات أخف وطأة على أطفال حرب تموز من الأزمة النفسية التي لحقت بهم جراء عيشهم لها، فقد بات هؤلاء يرتعبون لمجرد رؤية طائرة حربية، لا بل إن بعضهم ترتفع حرارته لمجرد سماع هديرها. فقلوبهم الصغيرة ما عادت تحتمل هذا الخوف الذي تحوّل مع الوقت إلى ما هو أفظع.. إلى الاستعداد الدائم للهرب والصراخ والأرق والتبوّل اللاإرادي والصعوبات التعليميّة أيضاً. محمد حمزة (13 عاماً) واحد من الأطفال الذين سرقت الحرب طفولتهم مبكراً. في كلّ مرّة، يسمع فيها محمد «المفرقعات الناريّة أو أي صوت قوي آخر، أتذّكر حرب تموز والهرب من القصف، وأشعر بالخوف». أما محمد خليل موسى (6 سنوات) من معروب، الذي فقد والدته وثلاثة من إخوته في قصف إسرائيلي هدم المكان الذي لجأوا إليه على رؤوسهم، فهو يحيا في عالم المنامات، يلعب مع إخوته ويستمع حتى إلى نصح أمه التي تزوره بانتظام في الليل. ربما كانت هذه طريقته في تحمل غيابهم المفاجئ والمأساوي، إلا أن الولدين المذكورين ليسا وحيدين. هما مجرد نموذج، غير فاقع حتى لما يحصل لأولاد الجنوب. فالكثير من أطفال المناطق التي شهدت أعنف الهجمات الإسرائيلية مثل مارون الراس وعيتا الشعب، تذكّرهم الأصوات الخارجة عن المألوف بالحرب وتالياً بالهرب. ويتذكر سعيد خنافر ما جرى لأولاده «العام الماضي عندما اخترقت الطائرات الحربية الإسرائيلية أجواء البلدة على نحو منخفض، حيث وجدتهم ينتظرونني أمام مدخل المنزل وهم يحملون حقائبهم متهيئين للرحيل». مع ازدياد هذه الأزمة سوءاً، وخصوصاً مع الحرب التي اشتعلت أخيراً في غزة معيدة إلى الذاكرة تموز الدامي، عززت جمعية «أطفال العالم» لحقوق الإنسان في لبنان، بالتنسيق مع جمعية «التأهيل الإنساني» ومكافحة الأمية «ألفا» برنامج التأهيل النفسي الذي كانتا قد باشرتا به أواخر شهر آب من عام 2006. وتهدف النشاطات، بحسب ما تشير رئيسة جمعية أطفال العالم فرنسواز ماكنتوش إلى «توفير فسحة ترفيهية يومية للأطفال يرسمون خلالها ويتكلمون، بحيث ترشدنا إلى تمييز الحالات الأكثر تضرراً من الحرب» كما قالت لـ«الأخبار». بحسب هذا الاختبار اليومي، بينت ماكنتوش أن «حوالى 468 طفلاً يعانون حالات نفسية قاسية ويحتاجون إلى متابعة دائمة، وعلى الرغم من أننا استطعنا معالجة بعضهم، لكن هناك من يحتاج إلى متابعة دقيقة من الاختصاصيين النفسييين». وهذا ما لا تستطيع الجمعيّة تأمينه، نظراً لعدم وجود مراكز خاصّة بالعلاج النفسي في المنطقة، إضافة إلى «انخفاض عدد المراكز التابعة للجمعيّتين من 17 مركزاً في قضاءي بنت جبيل ومرجعيون مطلع كانون الثاني من عام 2007 إلى 7 مراكز الآن بسبب النقص في التمويل»، كما تقول منسقة عمل الجمعيتين في بلدة تبنين سلمى فواز. وبما أنّه لا يمكن أحداً أن يجود إلا من الموجود، تحاول الجمعيّتين سدّ النقص من خلال «الاستعانة ببعض الاختصاصيين النفسيين المستعدّين للمساعدة وعقد جلسات متواصلة مع الأطفال والأهالي أيضاً من أجل الإصغاء لمعاناة أطفالهم ومعاناتهم أيضاً». وتلفت ماكنتوش إلى «أنّ الجمعيّة عقدت إلى الآن لقاءاتٍ حواريّة مع أكثر من 100 عائلة للاطلاع على المشاكل التي سببتها الحرب».
وفي ما يخصّ الأطفال المتضررين نفسياً، فقد تنوعت النشاطات التي أقامها المنظمون لهم ما بين التعبيرية والتعليميّة. وتشير ماكنتوش إلى «أننا درّبنا أكثر من 400 طفل من عمر 5 إلى 13 سنة على التعبير بالغناء والرسم وكتابة القصص والأشغال اليدوية، التي تسهم في جزء كبير منها في التعرّف على حالته النفسيّة. يضاف إلى ذلك نشاطات أخرى، مثل الدورات الرياضية وتنظيم الحفلات الترفيهية والكرمس. وعلى هامش تلك النشاطات، يحرص المنظمون على إيلاء موضوع القنابل العنقودية الأهمية القصوى، حيث ينظّمون دورات خاصّة بتدريب الأطفال على كيفية مواجهة خطر هذه القنابل. وقد أصدروا إلى الآن كتيّبين عن الموضوع: «صيف الجنوب بعد عام»، وآخر خاص بالأهالي والمعلمين يتعلق بكيفية التعامل مع الأطفال ومعالجة مشكلاتهم النفسية. ومن الناحية التربويّة، تدرّب «ألفا» و«أطفال العالم»، بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي، الأساتذة على برامج تعليمية تسمح بإدخال اللّعب في الدراسة والابتعاد عن التلقين. وتبدأ هذه الدورات بتدريب «أساتذة من 14 مدرسة في 11 قرية، إذا ما استطعنا ذلك»، كما يشير أبي عازار. غير أن ما قد يغير هذا الهدف هو «ضعف التمويل وتحويل الأنشطة الخاصة إلى مناطق أخرى، قبل إنجاز التأهيل النفسي في بنت جبيل»، كما يلفت رئيس جمعية التأهيل الإنساني ألبير أبي عازار. ويناشد المعنيين «بتأمين تمويل للمشروع، لأن الحرب لم تنته، وفي كل مرة يرى فيها الأطفال مشاهد الحروب في غزة أو غيرها نعود درجات إلى الوراء، وكذلك الأمر عندما تخترق الطائرات الإسرائيلية الأجواء الجنوبية لتحدث القلق والخوف في نفوس الأطفال والأهالي من جديد».
الحرب لم تنته، ولا تزال مستمرّة بأشكال أخرى تتعدى الخوف والقلق، إذ تشير ماكنتوش إلى أنّه «بعد سلسلة من الجلسات تبين أن عدداً لا بأس به من الأطفال يعانون مشاكل بيولوجية ــــ نفسية، ولا سيما التبوّل اللاّإرادي».


تموز: حلقة في سلسلة