طنجرة البوب كورن
ضحى شمس
منذ فترة طويلة، لم أعد أذكرها، لأن النسيان هو إحدى سمات الإرهاق والتوتر و... لبنان في السنوات الأخيرة، تحوّل الشارع اللبناني إلى نوع من طنجرة «البوب كورن»، أو ما نسميه بالعامية «البوشار»، لا تعلم لدى مرورك فيه، أي حبة، أو مواطن، سينفجر بقربك، وإن كنت متأكداً من أنه سينفجر في كل الأحوال، ما دامت النار والعة تحته، والغطاء موضوع فوقه. عملية كيميائية حتمية، يتسارع فيها تبعاً لارتفاع الحرارة، انفجار الحبات مصطدمة بقوة بغطاء الطنجرة من الداخل، مهددة بتطييره هو الآخر. ونحن اليوم في لبنان، تماماً في هذه المرحلة. مرحلة يتسارع فيها كل شيء قبل أن يهدأ كل شيء. فالهدوء هو الآخر حتمي بعد الانفجار.
فتواصل الضغط على اللبنانيين من الخارج والداخل منذ ما قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، معطوفاً على اقتناع المواطن باهتراء كل قنوات التغيير، أكانت مؤسساتية أم نقابية أم فردية، والإحباط الناجم عن تجريب كل شيء وعدم تغيير شيء، أوصلا اللبنانيين إلى يأس متفجر. فإن أضفت إلى ذلك اليأس ضيق ذات اليد المتزايد بالأزمة المالية العالمية، وإحساس اللبناني بأنه متروك في غابة المجتمع، من دون أي مساعدة، يصبح وصف لبنان بطنجرة البوب كورن صبيانياً وغير لائق بمعاناة الناس.
وبعد الانتخابات النيابية المهينة بخطابها الطائفي، جاء الصيف، وتقنين كهربائه، وزيادة أسعار البنزين، لتقوّي النار تحت الطنجرة. وبما أن من ينفجر أولاً هو من تكون طاقته على الاحتمال الأضعف، فإن وسائل النقل المشترك أصبحت طناجر «بوب كورن» سيارة على الطرقات. سيارات متهالكة أكثر فأكثر، تدخلها فتظن نفسك لدى جلوسك على المقعد أنك وقعت في حفرة فيها «راصور»، تجلس في المقعد وتنظر تحت قدميك، فإذا بك ترى الأسفلت من ثقوب أرضها المهترئة، وهو يجري معاكساً لاتجاه جري السيارة بك. تضرب يدك على «مسكة» الباب فلا تجدها، أما مسكة الشباك فصار متعارفاً عليه أن تطلبها من السائق، لأن بعض الركاب يسرقونها! وفي هذا الجو اللطيف، اسأل السائق ـــــ إذا توافرت لك الشجاعة ـــــ لماذا سيذهب بك من هذا الطريق الطويل؟
هذا كله، على فداحته، يبقى مجازياً. لكن أن تتحول السيارات حرفياً إلى متفجرات، فمعنى ذلك أن تراجيديا النظام اللبناني بلغت ذروتها! كلنا تابعنا على قناة المنار تحقيق الزميل ضياء أبو طعام الذي شاهدنا فيه صوراً مأخوذة خفية، لما قال إنه غشّ المحروقات اللبنانية بمادة النفطة، وهي مادة شديدة الاحتراق، يخلط بها البنزين أو المازوت، لربح الفارق بالسعر، وقد تسبب انفجار السيارة واحتراق من فيها. وبما أن لبنان، الدولة، أصبح جثة تتحلّل، وبما أن أولى صفات الجثة أنها لا تدافع عن نفسها، فإن الشلل الرقابي المتمثل في قلة أفراد مديرية حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد، وافتقارها إلى وسائل التحقق، (ويأسها ربما من التحقق في وجود حيتان المال في السلطة) شجعت تجاراً جشعين على بيع الناس هذا الكوكتيل المولوتوف. فضيحة ما بعدها فضيحة، وخاصة أن من فضحها لم يكن أجهزة الدولة المدنية، بل تحالف الناس العاديين والعسكر والإعلام. هنا، يسجل لاستخبارات الجيش تجاوبها مع جمعية أهلية لحماية المستهلك، تتحول شيئاً فشيئاً إلى جمعية لحماية المواطن، بما يعنيه ذلك من حلول مكان الدولة «الغاشية» في مختلف القطاعات، بما فيها مديرية حماية المستهلك التي ليس في قدرتها أكثر من إجراء تحقّق روتيني عبر أخذ عيّنات من محطات وقود، وبالتالي «نفي» حصول الغش («الأخبار» العدد 884) وهو يسير على قدميه على طرقاتنا.
حاولت السرفيسات منذ بضع سنوات، في محاولة للتعايش مع «فرمانات السنيورة» التحوّل ذاتياً، من العمل على البنزين إلى الغاز، الطاقة الأرخص. هكذا، تناقل الناس أخباراً (شفوية غالباً) عن سيارة هبّت بسائقها هنا، و«فان» احترق بسائقه هناك، وركاب نجحوا بالهرب من ثالثة تبين أنها تسير على الغاز. ومن لا يذكر رائحة الغاز التي كانت تنبعث من سيارات السرفيس منذ بضع سنوات، فيما كان السائق، بوجه قلق، ينفي للركاب أن تكون سيارته على الغاز! من لا يذكر أيضاً «ثورة البنزين» في حيّ السلم، التي قُتل فيها 7 لبنانيين خلال مطالبتهم بخفض سعر المحروقات؟ من لا يذكر سيارة الأوزاعي التي احترقت متوقفة في زحمة سير ذات صيف خانق، بسبب تسرب الغاز من محركها، حيث تبين أن صاحبها حولها لتعمل على الغاز عند ميكانيكي «رخيص» ، فانفحرت به في زحمة سيارات هادرة بالغضب والحرارة ذات صيف. يومها لُفلفت القصة، لأن المدان الحقيقي ليس السائق الذي استرخص، ولا الميكانيكي المخالف، بل الدولة التي ترفض العودة إلى دعم بنزين النقل المشترك رغم كل الضغط على الطبقات الفقيرة، وأجهزة المراقبة التابعة لها.
بالطبع، فللدولة ما هو أهم لتدعمه: الدين العام الذي حولت من أجله كل الشعب اللبناني وإنتاجه إلى مجرد وقود يبتلعه الدين ولا يكتفي. أما المواطنون، فما همها منهم، ما دام لا قوة لهم ولا حول... وطير وفرقع يا بوشار.