راجانا حميةوحدها، تعيش الليل بعكس كل البشر. هم ينامون فيه، أما هي فترافقه، إلى أن يرحل. لا فرق بين عتمه وضوء النهار. ولا يهم هذا الفرق أصلاً، فالأمر سواء بين توقيتين تعيشهما في انتظار طرقة خفيفة ليدٍ فارقتها منذ ثمانية وعشرين عاماً، قد تكون يد أحد الغائبين الأربعة عن ديارها. 28 عاماً، ولا تريد أم عزيز الديراوي، أم أربعة شبان فقدوا ذات نهارٍ مشؤوم في عام 1982، أن تتنازل عن الأمل بعودتهم. تنتظرهم نهاراً أمام باب البيت في مخيّم برج البراجنة، بعدما أبعدها قلبها المتعب عن خيمتها في حديقة جبران خليل جبران، وفي اليد، الصورة التي امّحى اللون البرونزي عن الإطار مكان أصابعها. وفي الليل، تجلس على «طرّاحتها» واضعة الصورة أمامها، وتعيد لف شريط الذكريات الذي لم تتعبه السنون. لا يكاد ينقص من الشريط فصل أبداً. تتذكر الشاحنة التي أقلت «أطفالها» الأربعة. عجلاتها السوداء المجبولة بالوحول. أصواتهم المودّعة. الطقس البارد حينها.
أمسكت صورتهم في الاعتصامات حتى امّحى لون الإطار مكان أصابعها
تتوسّل النوم، لكنّه لا يأتي. وعندما تيأس من محاولاتها المتكررة، تسند رأسها إلى الوسادة، وتغرق في البكاء، بصوتٍ خافت خوفاً من أبنائها الباقين، المشغولي البال على قلبها. يبتل طرف الوسادة الأيسر، فتستدير نحو الطرف الأيمن، تغرقه هو الآخر، فترتد بعده إلى الطرف الأيسر. وفي كل مرة تستدير فيها، تحمل أبناءها الأربعة معها. لا يوقفها عن استداراتها المتكررة إلا الصوت الخارج من المسجد المجاور لبيتها فجراً.
أمس، لم تستطع أم عزيز إخفاء صوت بكائها. كان مسموعاً. عالياً. لم تأبه لوجود بقية أولادها وأحفادهم، أحفاد الحاضرين منهم والغائبين. بكت، لأن هديّة عيدها لم تأتها منهم، بل أتت «على نيّتهم»، نيّة عودتهم، من «أصدقائها» في مركز الخيام لتأهيل ضحايا التعذيب.
لم يترك بكاؤها متّسعاً للاحتفاء بـ«أجمل الأمهات»، فكان يقطع بين الفينة والأخرى أصوات المحتفين بها. انتظروها كي تصحو من نوبتها، ليبدأوا. «يا أم عزيز، شو بنا»، يناديها رئيس المركز محمد صفا، فتهدأ. تجلس بين الصورتين «الفوتوكوبي» عن الصورة التي في يدها. تهدأ قليلاً، تحاول جاهدة أن ترسل ابتسامة، لكنها لا تفلح إلا في «انتحال» طيفها. يجد صفا فسحته لإهداء «عروسة أمهات المفقودين» وسام «أجمل الأمهات»، وإلقاء كلمته الصغيرة عن «أمٍ مناضلة»، وتقديم اعتذار لها لعدم دعوتها للاعتصامات الاخيرة (التي تغيّبت عنها) «حفاظاً على صحتها». في كلمته، وجه صفا التحية إلى «الأم التي لم تتعب من الأرصفة، والتي تحمل أولادها منذ 79 عاماً، وبدها تضل حاملتهن». أم عزيز الأم، هي جدّة أيضاً. ولهذه الجدة تحية من الأحفاد. من رشا، التي عايدت «الأسيرة تحت رحمة الأمل»، واعدة إياها «بعيش الكفاح معك حتى عودة الغائبين». حان دور أم عزيز. لم تتغير كلماتها منذ حادثة الاختطاف. العبارة نفسها «لا عايزة صحة ولا مال، عايزة بس قبل ما أموت أشوفهم». تعود «عابورة» البكاء مجدداً، ولكنها مصرة على السرد، تقول «أنا مش قليلة، إلي أربعة، لا واحد ولا اثنين، لو عارفة ما عاد رح أشوفهم، كنت حطّيت حالي تحت دولاب الشاحنة اللي أخدتهم». وتبدأ دعاءها «يا رب تربط ايدين اللي ساجنينهم، يا رب متل ما راحوا فجأة يرجعوا فجأة، وإذا ما كانوا بعدهم بصحتهم، بس يرجعوا بطعميهم لو كانوا ضعاف». تخاف على «صحتهم»، وهي التي «زرعت رسوراً» في قلبها بسبب ضعفه، ولا تأبه لذلك كله. المهم أن تراهم، ولو «كانت روحي علقانة بسقف حلقي».
في الدار الضيقة، كانت صور أم عزيز تملأ الجدران. وتحت تلك الصورة، نسخة طبق الأصل: أم عزيز باللباس نفسه وفي حجرها «أولادها الأربعة» والعكّاز. لكن، ثمة ما تغيّر قليلاً. اليدان الثابتان في صور الحائط تعبتا في الواقع. فالمرأة التي لا تتبدّل ملامحها، فقدت السيطرة امس على رجفة يديها. هذا ما تغيّر فقط، وأم عزيز لن تعترف بغير تلك الرجفة.