للمرة الثالثة خلال شهور، ها هو المحامي الفرنسي جاك فيرجيس في بيروت. هذه المرة لمساندة تحرك اليوم لإطلاق سراح جورج إبراهيم عبد الله. المحامي الذي يعرف كيف يختار قضاياه بدقة من ينتقي سلاح معركة تتجاوز ساحة المحكمة، سيعيد بوجوده هذا قضية موكله إلى دائرة الضوء
ضحى شمس
رجل فاتن. هذا ما يشعر به المرء أمام جاك فيرجيس. نوع من هالة تحيط بهذا الرجل المتوقّد الذكاء والنظرة برغم أعوامه الأربعة والثمانين. هالة تكاد تشعر بحرارتها إذا اقتربت منه كما عندما تقترب من نار موقدة. وبرغم سنّه رأيناه يقف كالرمح، مرتين، على خشبة المسرح في بيروت، مشدوداً كوتر لساعة في كل مرة، مقدّماً من الذاكرة مرافعته الممسرحة في الاخلاق السياسية. مرافعة قائمة على قراءة خلاقة للفلسفة والقيم، ومعرفة دقيقة بالتاريخ والسياسة، ووعي حاد لقضايا عالمنا المعاصرة وإيمان شديد وحقيقي بأفكار الثورة الفرنسية. ما سرّ هذا المحامي الذي يفرض على ساحات النقاش العام مواضيع من خارج جدول اعمال الاستبلشمنت ووسائل إعلامه، متلاعباً بهما، منتصراً في النهاية، مبتسماً ابتسامته الشهيرة الساخرة وهو ينفث دخان سيكاره؟ شغفه بما يفعل؟ ربما. تمكّنه مما يقول ببلاغة شيشرون؟ وضوح مقاييسه الأخلاقية ومنهجه المنطقي وأفكاره السياسية، أم هو هذا الاحساس العميق بجوهر العدالة الذي يجعله يبلور مواقف نادرة الوضوح والقوة من كل ظلم؟ وضوح لا يعطل عند الرجل مرونة في رؤية ما تعطّل الكليشيهات رؤيته عادة، في خندقه الفكري، إن صح التعبير، أو خندق الآخرين. لذلك، لا يجد فيرجيس، الفرنسي المولود لفييتنامية وزوجها ابن جزر الريونيون، أي تناقض في مرافعته عن اشخاص، لا يجمعهم في الظاهر شيء، إلا صورتهم العامة كفريسة «للقطيع»، او الرأي العام الذي يتلاعب به أهل السلطة، الاستبلشمنت، عبر وسائل إعلامه الكونية. ففيرجيس، الذي يختار قضاياه بعناية من ينتقي اسلحة معركة تتجاوز باحة المحكمة إلى ساحات الرأي العام، لا تابوهات عنده. وهو وإن اشتهر بدفاعه عن جميلة بوحريد بطلة الثورة الجزائرية مستهل الستينيات، التي عاد وتزوجها وأنجب منها قبل أن ينفصلا، إلا أنه أيضاً محامي الديكتاتور بينوشيه، و«الإرهابي» كارلوس و«المجرم» المغربي عمر رداد، واللبنانيين أنيس النقاش وجورج إبراهيم عبد الله. وهو قد يكون قريباً محامي أصحاب الأملاك في الوسط التجاري في بيروت، لو قبل القضية التي طلب ملفها ليقرأه قبل ان يقرر.
وفي بيروت، في صالون ميشيل الفترياديس، منتج «مرافعتيه» وسلسلة «غير لائق سياسياً» في الميوزيك هول، كان اللقاء التاريخي بين أنيس النقاش ومحاميه الذي لم يره منذ 19 عاماً، بحضور جوزف ابراهيم عبد الله، شقيق جورج، ومريم، ابنة المحامي من المناضلة الجزائرية جميلة بوحريد، والتي تتكلم العربية بلهجة جزائرية تثلج القلب، والعديد من الأصدقاء.
كان علينا انتظار لقاء أنيس و«ميتر جاك» الذي لم يكن قد وصل بعد. وبرغم تعليمات المخرج الفرنسي الذي كان يصوّر وثائقياً، إلا أن أنيس ما إن سمع الصوت الجهوري للمحامي آتياً من أسفل الدرج، حتى خفّ للقائه. تعانق الرجلان بحرارة، ثم بادر فيرجيس أنيس بالقول: «في المرة الأخيرة التي رأيتك فيها كانت الأنابيب تخرج من فمك وأنفك لأنهم كانوا يريدون إرغامك على إيقاف إضرابك عن الطعام»، تتطاير المزحات الودودة في تمويه لتأثّر عميق.
نسأل فيرجيس: لمَ لا يزال جورج ابراهيم عبد الله في سجنه الفرنسي؟ وما الذي يجب علينا فعله لإعادته إلى البيت؟ يجيب: «جورج لا يزال في السجن بطلب من الأميركيين الذين لا تريد فرنسا اليوم ان تقول لهم لا. (الجنرال شارل) ديغول مات للأسف الشديد».
ولكن ما الذي يستطيع لبنان القيام به لإعادة جورج إلى لبنان؟ «ما يفعله رئيس جمهورية فرنسا للفرنسيين المسجونين في الخارج، حتى عندما يكونون محكومين في جرائم لها علاقة بالحق العام، كما في حال الفرنسيين سارقي الأطفال في التشاد. يستطيع لبنان أن يفعل ما فعله ملك المغرب الحسن الثاني لأجل المغربي عمر رداد، الذي كان في السجن ضحية لخطأ قضائي، والذي أُطلق سراحه بعفو خاص من الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك. لا أرى ما الذي يمنع لبنان من ان يكون ذا وزن كالمغرب. ففرنسا، من اجل سياستها في الشرق الاوسط، بحاجة إلى لبنان».
نقول له إن التأثر كان واضحاً في لقائه أنيس النقاش، الذي كان قد ذكره في مرافعته. فهل يرتبط عادة بعلاقة شغف مع موكليه؟ يجيب: «عموماً أنا حساس جداً تجاه الجزء من الإنسانية الموجود في كل انسان، متهم أو لا، مجرم او بريء. في حالة أنيس النقاش، لم نكن في صدد التعامل مع مذنب، ولكن مع شخصية وطنية ورجل خاطر بحياته، ولخمسين يوماً من الإضراب عن الطعام، من اجل استعادته حريته. خلال الخمسين يوماً تلك، كنت إلى جانبه، وهذا أمر ليس سهلاً نسيانه. أمر يؤسس لصداقة تدوم إلى الأبد». ولكن، هل من الممكن في عالم اليوم القيام بما قام به و«موكليه»؟ فمعطيات هذا العالم قد لا تسمح حتى لأشخاص مثله بالظهور، فكيف بالقيام بما قام به؟ ونسأله: عندما تنظر إلى عالم اليوم من قمة سنيّك الاربعة والثمانين، هل ترى ان عالماً أفضل لا يزال ممكناً؟ هل تجد انك نجحت في مهمتك؟ يجيب: «نعيش اليوم للأسف أياماً من انخفاض المنسوب الفكري، من التوحش الأخلاقي الغربي. فكّري كيف عومل السجناء في سجن ابو غريب؟ كيف عومل الغزاويون خلال قصف غزة، هذان الأمران بقيا دون عقاب. ولكن، لا شيء يدفع إلى اليأس إذا كنا في ساحة النضال والصراع. من كان يتصور حين كان هتلر يستعرض قواته تحت قوس النصر في باريس عام 1940، انه بعد

جورج لا يزال في السجن بطلب من الأميركيين الذين لا تريد فرنسا اليوم ان تقول لهم لا
خمس سنوات فقط، الجيش الأحمر هو من كان سيستعرض قواته في شوارع برلين؟ من كان يتصور أنه في عام 1945، حين كان الجيش والمستوطنون (الفرنسيون) يذبحون آلاف الجزائريين في (ولاية) صطيف (منطقة في الجزائر)، أنه بعد 17 عاماً، الجيش الفرنسي هو من كان يرحل جارّاً أذيال الخسارة؟ المستقبل هو لمن يقاتل: «إلى السلاح أيها المواطنون»، كما يقول النشيد الوطني الفرنسي، لا مارسيلييز، انشودة الجمهورية الفرنسية». نقول له انه عندما أنصتنا إلى مرافعته، خيّل الينا ان وسائل الإعلام كانت في بعض الاحيان متواطئة معه (كما حدث في اسرائيل التي طرد من مطارها وسرّب الأمر إلى الإعلام) كان هذا منذ زمن طويل، فكيف يرى وسائل الإعلام اليوم؟ لا أوضح من رأيه: «الصحافة في الغرب اليوم هي مسألة نقود واستعراض. قدّمي للصحافة الاستعراض، تتحدث عنه حتى لو كان ضد قناعات الصحافيين، لأن السبق يجذب الجمهور، وثمن الإعلان تحدده اهمية الجمهور».
لكنّ فيرجيس، الذي كان كريماً برغم تعب ما بعد المرافعة، لم يشأ التعليق على التعميم الذي أصدرته نقيبة المحامين بوجوب الحصول على إذن خطي قبل التحدث إلى وسائل الإعلام. قال ببساطة: «لا أعلّق على المسائل المهنية الاخلاقية لنقابة لست عضواً فيها». يبقى أن نصَّيْ مرافعتَيه سينشران نهاية السنة.


الحملة الدولية لإطلاق جورج عبد الله

هو الصباح الرقم 9244 للمعتقل جورج إبراهيم عبد الله في سجنه الفرنسي لانميزون، لكن صوت جورج سيعلو في قاعة فندق السفير في عاصمة بلاده بيروت، حيث تنطلق الحملة الدولية للإفراج عنه. على منصة المؤتمر سيجلس محاميه جاك فيرجيس يفنّد التعسف الرسمي الفرنسي في استمرار احتجازه، والى جانبه سيتحدث رولان دوما وزير الخارجية الفرنسية الاسبق، وآلان بوجولا القيادي في الحزب الجديد لمناهضة الرأسمالية. يأمل أهل جورج وأصدقاؤه أن يصل كلام هؤلاء الى وزيرة العدل الفرنسية ميشال إليو ـــــ ماري التي «بشرت» من بيروت، الأسبوع الماضي، بأن جورج سيبقى في السجن الى الأبد!
يعرف أعضاء الحملة الدولية، أن معادلة إليو ـــــ ماري قابلة للنقض إذا ما توحّدت الجهود لمختلف اللجان والمبادرات التي تسعى الى حرية عبد الله. وسيتعهد هؤلاء أن تتخذ حملتهم مساراً تصاعدياً، بمختلف الأشكال ولا سيما الاعتصام والتظاهر.