أمس بدا لبنان كله يحترق. 120 حريقاً في 4 أيام، أكبرها حريق فتري. لم يشبع حريق البلدة الجبيليّة بعد. جدّد هجومه أمس، ملتهماً أحراجها ومحيطها. هكذا، ما إن هبت الرياح، حتى عادت النيران لتستعر في يومها السابع، مهدّدة محطات توليد الكهرباء والوقود بالانفجار. وكما في جبيل كذلك في بعبدا وحاريص وحلبا. لم تقع إصابات ما خلا بضع حالات اختناق عالجها الدفاع المدني سريعاً، فيما جاءه مدد معنوي يتمثل بزيارة لرئيس الجمهورية شخصياً
جبيل ــ جوانا عازار
« كلّ نطاق فتري احترق». قالها رئيس بلديّة فتري بأسى، عماد ضو، مرتين كأنه لا يصدّق. مئة وخمسون ألف هكتار من الأحراج العتيقة الخضراء، احترقت عن بكرة أبيها. واكب ضو عمليّة الإطفاء بكل تفاصيلها، من أعلى الجبل الذي يشرف على البلدة، حتّى أسفله. قبل أسبوع، كان هذا الجبل نفسه، مكسواً بأشجار السنديان والصنوبر المعمّرة، أما اليوم، فلا شيء سوى هياكل سوداء ينبعث منها دخان كأنه دخان الأسف. حتّى «وادي نهر ابراهيم الأثريّ راح، احترق وصار كلّو رماد»، يضيف ضو. لم يكن رئيس البلدية وحيداً، في مراقبة فصول هذه المأساة البيئية. هكذا، وصل موكب رئيس الجمهوريّة، ميشال سليمان، الى البلدة، في منتصف النهار. النائب عن جبيل، سيمون أبي رميا، كان موجوداً هو الآخر في المكان، إلى جانب رجال الجيش اللبنانيّ والدفاع المدنيّ، ونحو 50 شخصاً من الأهالي، ممن استطاعوا الوصول. فالطريق قطعت من المفترق المؤدي إلى البلدة. لم يسمح إلا للإعلامييّن والرسمييّن بالوصول الى قلب فتري. هناك، يصبح المشهد واضحاً. النيران تلتهم الأشجار. الدخان يغطّي الجو. عدد من المواطنين يقصّون الأشجار عن الطريق العام لقطع تواصل الحريق حين لا يجد ما يلتهمه. مواطنون آخرون، يلملمون أطفالهم، ويوزّعون عليهم الكمّامات الواقية. إيلين كامل، إحداهنّ، قالت إن «الحرائق تلتهمنا، النيران وصلت الى منازلنا»، ثم تضيف وكأنها تريد أن تصف حجم الكارثة «وكلّ مؤسسات الدولة عندنا، حتّى رئيس الجمهوريّة في فتري». بدوره، أعلن سليمان «نرى الحريق وقد وصل الى بيوت الناس الطيّبين الذين لا دخل لهم بالسياسة، لذلك يجب أن نعرف أن لبنان يفقد لونه الأخضر ويجب أن ننكبّ على دراسة خطط حقيقية لا ارتجالية لإطفاء الحرائق». واستفاض الرئيس، وهو ابن المنطقة، معتبراً أن اللبنانيين «لا يملكون مساحات شاسعة، ويمكن أن نصل الى أماكن الحرائق، ولكن المشكلة تتمركز في عدم وجود خطط ولا طرقات». وما هي إلا ثوانٍ على انصراف سليمان، حتّى وصلت النيران إلى المكان الذي كان واقفاً فيه!!
ميرنا البعيني، إحدى «الناجيات»، استطاعت أن تغادر منزلها ـــــ بصعوبة ـــــ بعدما هدّدته النيران. خرجت مع الإعلامييّن الى أعلى البلدة مرشدةً إياهم: «صارت النار عنّا» مبدية قلقها على المواطنين المحاصرين بالنيران. وفي هذه الزحمة الشعبية، والرسمية، المهددة باقتراب النار، شوهد المواطن إبراهيم سعيد، يستعين بمجرد «نربيش» مياه، لمنع النيران من الوصول إلى منزله الكائن على «كوع القصّ». تيريز سعيد التي كانت تتأمل المشهد وقد أسقط في يدها، قالت كمن يحدث نفسه: «خلصت الضيعة، مرحبا لبنان الأخضر». ثم صمتت، لتراقب عناصر الدفاع المدنيّ يملأون آليّاتهم بالمياه من «بير الهيت». أمّا وسام منصور، فهرع الى محطّة الوقود التي يديرها (على الطريق العامّ لفتري) محاولاً اتخاذ بعض «الإجراءات الوقائيّة». لكن، لم تكن تلك الإجراءات سوى قطع الأشجار في الحرج الكائن تحت المحطّة تجنّباً لوصول النيران إليها، حين لا تجد ما تلتهمه.
في ذلك الوقت، وصل وزير الداخليّة والبلديّات زياد بارود إلى البلدة لتفقّد عمليّات الإطفاء، سائلاً عن إمكانات الدفاع المدنيّ، الذي لديه ثلاث طوافات فقط (سعة الواحدة 4 آلاف ليتر من المياه)، كانت تعمل بمؤازرة أربع طوافات تابعة للجيش اللبناني (سعة الواحدة 1200 ليتر). إذاً، كميّة المياه المتوافرة، أقلّ بكثير من الكميّة المحتاجة إلى إطفاء 120 حريقاً

قطعت شركة الكهرباء خطوط التوتّر العالي فوق البلدة
اشتعلت في لبنان في يوم واحد. بارود قال «لم أعد أشكّ بأن تكون الحرائق مفتعلة». وقرابة الثالثة ظهراً، وبفضل تحول الهواء إلى الجنوب، هدأ الحريق قليلاً، وأخمدت النيران في محيط المنازل، وتمكّن السكّان من الخروج منها، بدون إصابات في الأرواح، باستثناء إصابة طفيفة لأحد عناصر الدفاع المدنيّ وبعض حالات الاختناق التي أوصت وزارة الصحّة مستشفيات القضاء بمعالجتها على نفقتها الخاصّة. بدورها، قطعت مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان المياه عن جبيل والمنطقة لزيادة ضغط المياه في فتري، كي تتمكّن آليات الدفاع المدني من الحصول على المياه سريعاً، فيما دعا ضو أصحاب الصهاريج إلى مؤازرة الدفاع المدني ومدّه بالمياه. كذلك عمدت شركة الكهرباء الى قطع الكهرباء عن خطوط التوتّر العالي من 150 و220 فولت التي تمرّ فوق البلدة، ما أثّر على تغذية عدد من قرى القضاء بالتيّار الكهربائيّ.
وفي الجنوب، التهم حريق صباح أمس، عشرات الأشجار المعمّرة، في بلدة حاريص (بنت جبيل). وقدّرت الخسائر في القرية بآلاف الدولارات، وفقاً لمصدر بلدي متابع. هكذا، فوجئ الأهالي باشتعال النيران، التاسعة صباحاً، فتوجّه العديد منهم الى المكان الذي تنتشر في بعض مناطقه القنابل العنقودية، محاولين إطفاء النيران، لكن سرعة الهواء زادت من سرعة انتشار الحرائق، ما صعّب مهمة الأهالي، كما أن فرقة الدفاع المدني في بنت جبيل تأخّرت عن الوصول، لكنها ساعدت عند وصولها في إنهاء الحريق. أما شمالاً، فقد اندلع حريق في بساتين الزيتون في خراج بلدتي حلبا والشيخ طابا، مقترباً من المنازل المحيطة، فغادرها سكانها مخافة امتداد النيران إليها، قبل أن يطفئ عناصر الدفاع المدني وقوى الأمن الداخلي الحريق، بواسطة الرفوش والوسائل البدائية، بمؤازرة سيارة إطفاء تابعة لمركز الدفاع المدني في حلبا. في هذا الوقت، أجرى رئيس الحكومة سعد الحريري اتصالاً بوزير البيئة محمد رحال، وأبلغه أنه طلب من تركيا والأردن وإسبانيا مساعدة لبنان على إطفاء الحرائق، وقد أبدت هذه الدول موافقتها. وقد أتت النيران، في الشمال، خلال أقل من ساعة على أكثر من 200 شجرة زيتون. أمس كان المشهد مؤلماً. فعلاً، باي باي لبنان الأخضر.