غسان سعود
يومها، كانت الصدمة كبيرة للكتائبيّين الذين تجمهروا لوداع بشير الجميّل. حتى الشيخ بيار بدا وقتها خائر القوى، وكانت هستيريا النحيب تجتاح المكان. لكن فجأة امتشق رجل أربعيني المنبر فتسمّر الناس أمامه قابضين على دموعهم. وما هي إلا دقائق حتى علا التصفيق لخطيب عرف جيداً كيف يُحيي الميّت في قلوب السامعين. ولم ينهِ إدمون رزق خطبته ذلك اليوم إلا وكان الكتائبيون قد قاموا بخطوة ولو صغيرة على طريق تقبّل مأساتهم.
مرَّ على تلك الحادثة التي انتهت بتوريث أمين الجميّل الرئاسة أكثر من ربع قرن، لكنّها ما زالت تقفز بسرعة إلى ذاكرة كل مَن يتناهى إلى مسمعه اسم إدمون رزق. إنّه الخطيب الثالث في حزب «الكتائب» بعد الياس ربابي ولويس أبو شرف. وهو اليوم ـــ رغم قلة الفرص لممارسة الكاريزما الخطابيّة ـــ إلا أنّه ما زال يُحافظ على ذلك الصوت الهادر جاذبيةً، وسرعة البديهة. وقد زاده العمر حدّةً في الآراء، وثقافةً في الجدال، ووقاراً مفعماً بالحنين إلى زمن الكبار.
في مكتبه في الأشرفيّة، يفرح رزق بأن يتذكّر أحدهم صورته الحقيقيّة في «بلد ضاعت ذاكرته». بعناية، ينتقي كلماته: «نشأت في عائلة لبنانيّة، مارونيّة، ذات هوى عربي وقربى إسلاميّة. والدي أمين رزق شاعر وأديب وصحافي، ترأس تحرير صحيفتي «الحديث» و«الرواد»، الأمر الذي ملأ حياتنا فكراً ووطنيّة وأغنانا بالصداقات. وكانت هناك علاقة شخصيّة متينة، شبه أبويّة، بين والدي وبيار الجميّل. هكذا انتسبت في الـ 11 من العمر إلى «فرقة الأحداث» في «منظمة الكتائب»».
في تلك المرحلة، كان يدرس في دير «سيدة مشموشي» الداخلي. وبعد سنوات، انتقل إلى بيروت حيث التحق بمدرسة «الحكمة» في الأشرفية، وكان اتصاله بالكتائب متقطعاً، تمهيداً لانقطاعه بالكامل مطلع 1949، حين انشغل بتدريس الأدب العربي في «الحكمة» وفي «كلية الأهلية للبنات». في 1951، انتخب عضواً في مجلس نقابة معلمي المدارس الخاصة، ممثلاً لأساتذة مدرسة «الحكمة». هناك توسّعت معارفه إذ كانت النقابة تضمّ رئيف خوري، جورج غريّب، عمر فرّوخ، ألفريد رزق، ميشال خليفة، سليم ورد، هنري رحيّم، حسن اللاذقي، عارف أبو شقرا، لور رزق الله، سميّة عطيّة، فكتور بستاني وغيرهم.
وبموازاة تأسيسه مع بعض الأصدقاء «نادي فتيان الشلال» (نادٍ رياضي جزيني) و«رابطة شباب جزين ـــ مغدوشة»، بدأ الكتابة لبعض الصحف وانتسب فور إتمامه الـ 18 من العمر إلى نقابة المحررين. في تلك المرحلة، أسّس مع الشعراء: جورج غانم، شوقي أبو شقرا وميشال نعمة حلقة «الثريا الأدبيّة» التي انضم إليها لاحقاً كتّاب آخرون، مثل: نور سلمان، جورج شامي، جوزف أبوجودة، جان جبور، ريمون عازار وأنور سلمان. ورغم تخصّصه في الحقوق انسجاماً مع ولعه بالدفاع عن المظلومين على حدِّ قوله، كان يركّز على الشؤون الأدبية والصحافيّة والتعليميّة.
لاحقاً، إبان ثورة 1958، بدأ يحضّر النشرة الصباحية ويكتب تعليقات سياسيّة في «الإذاعة اللبنانية» في وزارة الإعلام (كانت تعرف يومها بوزارة الأنباء). وكان يُعلّم في المعهدين «اللبناني» في بيت شباب و«الأنطوني» في بعبدا: «كنت أستيقظ في الخامسة صباحاً لأتوجه إلى السرايا الحكومية حيث الإذاعة. وعند السابعة أنتقل في السرفيس إلى بيت شباب لأدرِّس، ومن هناك أعود إلى الصيفي لأشتري كعكةً وأسير إلى ساحة الدباس لآخذ السرفيس إلى المعهد الأنطوني في بعبدا. ومن بعبدا إلى دار «الصيّاد» لتحرير الصفحتين الأولى والأخيرة في جريدة «الأنوار». وعند الثانية فجراً كنت أعود إلى منزلي لأنام ساعتين».
لكنّ نظام الحياة هذا لم يستمر طويلاً. إذ اغتيل فؤاد حداد، أو «أبو الحن»، كاتب زاوية «من حصاد الأيام» في صحيفة «العمل» الكتائبيّة. وكان الاغتيال مفصلياً في حياة الشاب الجزيني الذي قبل عرض الشيخ بيار بكتابة الزاوية مكملاً ما بدأه أبو الحن وقبله صلاح لبكي والياس ربابي ولويس أبو شرف. هكذا واظب منذ 1959 على الكتابة اليومية في تلك الزاوية مدّة ثماني سنوات انتهت بانتخابه عام 1968 نائباً عن جزين ،بعدما عيّنه الجميّل رئيساً لمكتبها الكتائبي عام 1960. وفي 1962، انتخب ليكون العضو الأصغر سنّاً في مكتب الكتائب السياسي. وقد ازداد قرباً من الشيخ بيار حتى جعله الأخير شريكاً معه على طاولة هيئة الحوار الوطني عام 1976 التي ضمتهما مع كميل شمعون وريمون إده.
يمر رزق سريعاً على خطفه 26 يوماً عام 1980، قافزاً المراحل في تجربته الحزبيّة، غير المشجعة بعد 1982 نتيجة «تبدّل في المضمون الكتائبي الوجداني»، ما دفعه لاحقاً إلى الخروج مع لويس أبو شرف وتأسيسهما مع بعض الزملاء «الكتلة البرلمانيّة المستقلّة». وكان يكتب للكتلة معظم البيانات التي درجت على توزيعها إثر اجتماعاتها الدورية في بكركي. ونتيجة مواقفه من حكومة عون الانتقالية أواخر الثمانينيات، قُصف مكتبه ومنزلاه في الأشرفية وفيطرون. وفي الطائف، كان رزق في لجنة الصياغة، ويقول إنه ساهم في إدخال بعض«التعديلات الأساسيّة». لاحقاً، إثر اغتيال رينيه معوض، برز اسمه مرشحاً محتملاً، لكنه أعلن قبوله الرئاسة فقط في حال الانتخاب، رافضاً الترشّح.
عود على بدء، يتحدّث رزق عن انسجام مع القناعات، عن «كتائب» أعطاها من قلبه، جازماً بأنّ القضيّة خرجت معه حين خرج من الصيفي، و«الحزب أمانة عندنا، فالأحزاب لا تقيم في بيروت وإنما في هياكل ناسها». إلى جانب رزق الكتائبي ورزق الصحافي، يبرز رزق النائب والوزير. إذ ترشح للمرة الأولى عام 1968 عن قضاء جزين خارقاً اللائحة المنافسة، وسرعان ما فازت لائحته كاملةً عام 1972. ورغم الإغراءات الكثيرة، رفض ـــ بعد النكث بالطائف وتعيين 40 نائباً خلافاً للاتفاق ـــ أن يترشّح، معتبراً كل الانتخابات اللاحقة باطلةً. أما وزارياً، فقد تولى وزارة التربية والفنون الجميلة في حكومة أمين الحافظ عام 1973، واستمر في حكومة تقي الدين الصلح إضافة إلى تولّيه مهام وزارة الإعلام بالوكالة. وبعد الطائف، عُيِّن وزير عدل وإعلام ووزير اتصالات بالوكالة، معتبراً أنّه أنجز في وزارة التربية الكثير قبل الحرب: «نفّذت شعار «لكل تلميذ مقعد»، ضاعفتُ عدد الثانويات واستحدثتُ البكالوريا المتخصصة وأنجزتُ تعيينات كثيرة».
لكن ماذا عن اليوم؟ ««الكتائب» في قلبي وعائلتي، وعائلة الجميل واحدة. كبرتُ على النيابة، وأعيش حياتي. كيف؟ أقصد مكتبي بانتظام، أقوم بواجباتي الاجتماعية. أهتمّ كثيراً بـ«لقاء الوثيقة والدستور»، وطبعاً هناك الأحفاد. وبدل الكلام عن هؤلاء، يعود إلى ذكرى والده مقارِناً: «أنا عجول. هو متروٍّ. أنا مقتحم، هو متريث. أنا مواجه، هو محافظ». وفي عينين كأنهما لا تعرفان البكاء، يقول بحزن مشوب باعتزاز: «أمتلئ حنيناً لذلك الرجل العظيم. أو قل إنّني أشتاق إلى كل أولئك العظماء. لا نستطيع مقارنة اليوم بالأمس. ثمة رغوة كثيرة تطفو على السطح حاجبة الرؤية».


5 تواريخ

1934
الولادة في جزين (جنوب لبنان)
1945
انتسب إلى «فرقة الأحداث» في «منظمة الكتائب»
1968
ترشح للمرة الأولى إلى الانتخابات النيابية عن قضاء جزين. وبعد خمس سنوات عيّن وزيراً في حكومة أمين الحافظ. وآخر مشاركة في الحكم كانت عام 1991، حين تسلّم العدل والإعلام في حكومة سليم الحص
1984
ترك حزب «الكتائب»، وبعدها باثني عشر عاماً شارك في تأسيس «لقاء الوثيقة والدستور»
2009
يدرس إمكان ترشيح أحد أبنائه للانتخابات النيابيّة