strong>حسين بن حمزةهدى بركات لديها مشكلة مع البلد، بل البلد هو صاحب المشكلة. بحسب معجمها، البلد هو لبنان أو بيروت. تتحدث بمرارة كأنّ لها ديناً في رقبة بلدها الذي بدل أن يسدِّد ما عليه، راح يراكم ديوناً جديدة لها على نفسه. بنت «بشرّي» (شمال لبنان) المولودة في بيروت، تلميذة المدارس الفرنسية، تفتَّح وعيها بداية السبعينيات في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية التي كانت مشروعاً أو فضاءً للمواطنة، لا قاعات للدراسة فقط. هناك قرأتْ الشعر الجاهلي وأُغرمت باللغة العربية. بالنسبة إليها، لم يكن هناك بلد. في الجامعة، بدأت تركب فكرة أن يكون لبنان بلداً طبيعياً: «الجامعة كسرت الحواجز. خرجنا من الطوائف وبحثنا عن انتماء مشترك. هناك حدثت أول الزيجات المختلطة. تعرَّفتُ إلى زملاء مسلمين ومسيحيين. كانوا مدهشين ورائعين. كان المسيحي هناك مختلفاً عن المسيحي الذي عرفتُهُ في بيئتي». زواجها بالشاعر محمد العبد الله، زميلها في الجامعة، كان نتيجة طبيعية. «لم أتزوجه لأنه شيعي، ولم أحسّ أني قمت بعمل بطولي. كان الجميع يشبهون بعضهم بعضاً. كان الشيعي مثل الماروني مثل السني».
بدأت الحرب الأهلية بالتزامن مع تخرّج الشابة المقبلة على الحياة بنهم. «الحرب منعتني من عيش ما تعلمته وأحببته. ما حدث في الجامعة تحوَّل إلى وديعة غير قابلة للصرف. أسكتتني الحرب. كان صعباً أن أنشّز على سمفونية المعارك الدائرة. في بيئتي، كانت الأخلاق هي المعيار الذي أحاسبُ عليه، وأقيسُ به الأشياء. الحرب كانت بلا أخلاق. لم تكن مجرد معارك. كانت انهيارات اجتماعية وثقافية أيضاً». لا تزال صاحبة «حجر الضحك» مرضوضة. الحرب جرحتها. البلد جرحها. «الحرب غيّرت الناس. أفسدت العلاقات. صار الحكي صعباً حتى مع من أحبّهم». عاشت بركات سنوات الحرب. أنجبت بنتاً وصبياً. أصدرت كتابها الأول «زائرات». وأنهت روايتها الأولى «حجر الضحك» التي ستفوز لاحقاً بجائزة مجلة «الناقد». وقبل أن تتوقف أصوات القذائف بقليل، بدأت تحس أن شيئاً خطيراً سيحدث لها أو لولديها. هربت إلى باريس التي كانت خياراً وحيداً «وجدتُ فيها 20 متراً مربعاً، أضع فيها ولديّ وحقائبي».
من هناك، بدأت تصلنا أعمالها التي تدور كل وقائعها في البلد. لا تسمِّي إقامتها الطويلة في باريس استقراراً أو انتماءً. لم تغيِّرها الحفاوة النقدية التي استقبلت بها ترجمات رواياتها. قلَّدتها فرنسا وسامين رفيعين. تُرجمت رواياتها إلى 14 لغة أجنبية. أما هي، فلا تزال تكتب بالعربية. تتلذَّذ بقراءة الجاحظ والقرآن. تشتغل على لغتها ونبرتها كما لو أن ما يحدث في باريس يحدث لغيرها. في هذه الأثناء، اتسعت المسافة بينها وبين البلد. تركت حبّها الأوّل، وكبر ولداها وصارا أكثر فرنسيةً منها، لكنها عرفت كيف تصنع علاقة صائبة بينهما وبين ماضيها الذي لا يمضي.
نسألها إن كان ما كتبته عن بيروت وهي في باريس أفضل مما لو كتبته في بيروت عن بيروت؟ «لا أعرف. ربما الفرق موجود في قسوة التناول. كتبت بقسوة عن بيروت لأني كنت بعيدة عنها. هناك حقد مبدع وإيجابي استثمرتُه في الكتابة. عندما تركت البلد، «كنكنت» على هذا الحقد داخلي. كنت مؤمنة بأن أحداً ما خرَّب حياتي. أظن أنّ ابتعادي عن بيروت سمح لي بتفريغ مرارتي وحقدي وحزني في الكتابة من دون أيّ تشويش». نسألها إن كانت قد انتقمت بالكتابة، فتعترف بأنها تتفاجأ من تعاطيها القاسي مع البلد في كل عمل جديد، لكنها لا تسمِّي ذلك انتقاماً. كانت علاقتها ببيروت علاقة مرضيّة. الكتابة صارت حلاً وسطاً لكنها لم تكن علاجاً. لعلَّ هذا يفسِّر لِمَ لَمْ تحضر صاحبة «رسائل الغريبة» في رواياتها التي تسيَّدها أبطالٌ يعانون مشكلاتٍ في الهوية الجنسية والنفسية. نتذكر خليل في «حجر الضحك»، والراوي في «أهل الهوى»، و«سيدي وحبيبي»، وكذلك بطل «حارث المياه». «أنا موجودة في كل شخصياتي. الفكرة هي أني أريد أن أكون بلا مرجع أو هوية. لا أحب أن أحضر في أعمالي كامرأة. أفضّل أن تكون الكتابة بحثاً وتقصّياً أستطيع فيه أن أُشبه كل الناس. الكتابة ممارسة معقّدة. ابن عمي مثلاً كان قنّاصاً في الحرب. لم أستطع أن أحبه ولا أن أكرهه. الكتابة تشبه شيئاً كهذا».
سلكت هدى بركات طريقاً ملتوية لترجمة جرحها ومرارتها إلى روايات. هكذا، واظب الرجال على نيل دور البطولة في أعمالها، إلى أن صدر كتابها «رسائل الغريبة» الذي سمح بتسرّب شذرات من حياتها الفرنسية إلى الكتابة. تقلِّل هدى بركات من شأن ما ظنناه فرصةً لإشباع فضولنا: «أعترف بأن «رسائل الغريبة» هو أقرب أعمالي إلى سلوكي وحياتي اليومية، ولكنه أبعد ما يكون

تلميذة المدارس الفرنسيّة تفتَّح وعيها بداية السبعينيات في الجامعة اللبنانية التي كانت مصنعاً للمواطنة

وسام الاستحقاق الفرنسي العام الماضي أربكها كثيراً، فاستنجدت بأمين معلوف الذي قلَّدها إياه في منزله

عن هواجسي الحقيقية». تقول الأمر نفسه عن مسرحيتها «فيفا لا ديفا» التي ستقدمها رندا أسمر قريباً في بيروت بإخراج نبيل الأظن. ما حسبناه مرثيةً لها ولجيلها المغدور، تراه نقداً لجيل الروّاد: «أورثونا فكرة أنه كان لدينا مشروع وطني وتحديثي مهم انكسر في الحرب، أو أن أحداً ما منعنا من تنفيذه. المسرحية تقول إن هؤلاء لم يفعلوا شيئاً سوى الأخطاء، وليس لديهم استعداد للاعتراف بأن المشروع كان مخرَّباً من الأساس». بالنسبة إليها، المشروع انكسر من داخله لأنه كان فارغاً. الجامعة كانت محاولة للبحث عن إمكانات لمشروع كهذا ولكن الحرب جرفت معها كل شيء.
«لستُ منفية ولا مهاجرة. أنا عالقة». تشبِّه هدى بركات نفسها بالمركبة الفضائية التي تفقد الاتصال بالمركز وتظل محكومة بالدوران الأبدي في مدارها. مع كل رواية لها، كانت تحسب أن مرارتها ستنقص أو ستتلاشى، لكنها كانت تزداد. «كنت أُفاجأ برصيد المرارة الكبير في داخلي». الآن، لم تعد غربتها الطويلة عن البلد مادةً درامية. صارت باريس مكاناً للعيش العادي. «لديّ بيت وعائلة ووظيفة. أستطيع أن أفتح التلفزيون على المحطات اللبنانية وأستعيد المكان في داخلي».
نسألها عن فكرة أنّها تكتب بالعربية لكنها مقدَّرة بالفرنسية وشبه منسية في بلدها. نحس أننا أثرنا في داخلها مرارة إضافية. «اللبنانيون يظنون أن الحفاوة التي أتلقاها في فرنسا تجعلني مغرورة ومتشاوفة. يرون أني «عالمية» ولست بحاجة إلى لبنان. هذا يجرحني، لأنه ببساطة ليس حقيقياً. حين كان العرب ضيوفاً على «معرض فرانكفورت للكتاب»، رفضت الذهاب مع الفرنسيين لأني أعتبر نفسي لبنانية، بينما قائمة الكتّاب اللبنانيين كانت خالية من اسمي كما كنت أتوقع. لاحقاً قالوا لي إنهم احتاروا كيف يحسبون مشاركتي: من حصة الموارنة أم الشيعة؟».
الكاتبة التي «أَبعدَهَا» بلدُها منذ عشرين عاماً، تريد أن يُذكر اسمها فيه كما يُذكر في الخارج. لا تفتش هدى بركات عن حفاوة زائفة. تفضِّل أن تعيش منزوية وزاهدة. حصولها على وسام الاستحقاق الفرنسي العام الماضي أربكها كثيراً. «فتَّشتُ عن حلٍّ يُعفيني من الاحتفال البروتوكولي. قيل لي إن حائز وسامٍ سابقاً يمكنه أن يتولى الأمر. هكذا، استنجدتُ بأمين معلوف الذي قلَّدني الوسام في منزله».


5 تواريخ

1952
الولادة في بيروت

1989
سافرت إلى باريس

1990
صدور روايتها الأولى
«حجر الضحك» الفائزة بجائزة
«الناقد» للرواية (دار الريس)

2001
حصلت على وسام من وزارة
الثقافة الفرنسية. وبعد ثمانية أعوام
حازت وسام الاستحقاق من رئاسة الجمهوريّة في فرنسا

2010
يعمل مرسيل خليفة على تلحين نص مأخوذ من مسرحية غير منشورة لها، كما تضع اللمسات الأخيرة على روايتها الجديدة «ملكوت هذه الأرض»