إيمان الجابر
في أحد فنادق الشام حيث التقيناه، كان يحدث صحافيّة شابة عن تخلي أعماله الموسيقيّة عن القفلة المركزية، والإبهار السطحي والبطولي. «القفلة المفتوحة قد تعطي مساحة للمستمع ليتأمل، وللفنان ليتنصَّت على الصمت»، قال لها. خلال حوارنا معه، لم يستطع مروان عبادو أخذ راحته في التدخين داخل صالة الفندق. كان يحدّثنا، ثمّ يخرج ليدخّن سيجارة. لهذا، انتقلنا إلى مقهى مجاور. الموسيقي الفلسطيني ـــــ اللبناني ـــــ النمساوي قدّم سلسلة حفلتين خلال الشهر الماضي في دمشق وحلب، كانت محطّات في جولة «تبقى فلسطين موّالي». تأتي الجولة لمناسبة العيد الستين لـ«وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا)، وشملت أيضاً بيروت والأردن.
انفتح عبادو في مسيرته على أنماط الموسيقية الغربيّة، من دون التخلّي عن جذور الموسيقى الشرقية ومقاماتها. قدّم نموذجاً يحاكي الغرب والشرق بلغة موسيقية مشتركة، من دون التورط في الأشكال الفولكلوريّة. ثراء جعل لغته الموسيقية تتمتع بفرادة وخصوصية عالية الحساسية. «التفرّد لم يأتِ من وعي شخصي أو نرجسي كاسح، ولا من عبقرية موسيقية تفتقت في بداية مشواري، بل من تجارب نمت فيها اقتناعاتي الشخصية في الموسيقى»، يقول. قيل إن صاحب «دواير» يرسم بالموسيقى. أن تسمع موسيقاه يختلف عن رؤيته يعزف. هناك نوع من التكامل الدرامي بين أداء عبادو على خشبة المسرح والنوطة، بين لغة الجسد والآلة الموسيقية. تراه يحضن آلة العود كطفل أو حبيبة. يصف عبادو عزفه مع فرقته على المسرح بمؤامرة تجمع بينه وبينها: «هي مؤامرة محكمة التدبير. منذ سنوات طويلة ونحن ما زلنا نصعد الخشبة بنفَس مشترك، وعزفنا يزداد أناقة في التعبير».
الحنين عنوان كبير في موسيقى صاحب «إشعاعات مطر». حنين إلى المكان وإلى يوم فلسطيني طبيعي لا جرحى فيه ولا بطولات ولا شهداء، «يوم مملّ لا أكثر ولا أقل». ذاك اليوم العادي في فلسطين سمع عنه من أبويه. عاشاه قبل نزوحهما من قرية كفربرعم في الجليل، أثناء النكبة. دمرت تلك القرية بالكامل ولم يبقَ منها إلّا جزء من كنيستها. سمع عنها لأوّل مرة حين كان طفلاً في الخامسة، يلعب مع أقرانه في مخيم ضبية في لبنان. «كان أهالي المخيم يجمعون التبرّعات لشراء جرس للكنيسة من صنع لبنان لينقلوه إلى كفربرعم. حينها علمت لأول مرة أنّ لنا وطناً آخر».
أطلق على ابنته اسم حنين، وحين يغنّي لها «نامي يا حنين»، يفعل ذلك كأنّه يطلب من حنينه هو أن يهدأ قليلاً. الحنين إلى مخيم ضبية الذي ولد فيه هجره عام 1975. «كان والدي يعمل حارس مبنى في منطقة الروشة. في تلك الأيام، كانت موضة الاستيلاء على المباني الفارغة أمراً طبيعياً. دافع والده عن المبنى، فكافأه صاحبه «بإعطائنا شقة لنعيش فيها، بعدما أجّر باقي المبنى»، يقول. وإذا بـ«معهد الفنون الجميلة» يستأجر باقي الشقق. «كان ذلك أجمل ما حصل في حياتي. بدا ذلك كأنّه نوع من المعجزات التي لا تتحقّق إلا في الحروب». صفوف المسرح والموسيقى، النساء اللواتي يقفن موديلات عارية ثمّ يتحولن إلى لوحات، أشياء جعلته يشعر بأنّه يعيش في «عالم مفتوح على الفتنة والسحر. أرسم وأغني مع جيراني». رغم هروبه المتكرر من الجامعة، بقي مشهوراً فيها بسبب نشاطه الفني.
انضمام صاحب «النرد» إلى فرقة موسيقية جعل الأهل يطمئنون إلى آخر العنقود. اعتقدوا أنّ اهتمامه بالفن سيبعده عن السياسة، وأجواء الحرب السائدة في بيروت الثمانينيات. لم يمر وقت طويل حتى اكتشف الأهل نوع الأغنية التي تقدمها فرقة ابنهم. وقف ابن السادسة عشرة لأول مرة ليغني «تشي غيفارا» على مسرح صالة الإمام الصدر في إحدى المدارس في بيروت. «وجّهت الدعوة من الطلبة الاشتراكيين. لم تمضِ لحظات على بداية الحفلة، حتّى وقع اشتباك في الصالة تلاه سحب البنادق». صارت كلّ حفلات الابن تنتهي بإشكال من هذا النوع. أدرك أهله خطورة الأغنية السياسيّة، وقرروا ترحيل مروان من بيروت. في عام 1985، بعد اشتعال حرب المخيمات، نفّذوا قراراً يشبه النفي. حزموا حقيبة السفر وأرسلوه على أول طائرة إلى فيينا حيث يقيم أخوه الأكبر.في عاصمة النمسا، أمسك إحساس الغربة بتلابيب روحه. «كانت البداية مؤلمة. لم أكن أتخيّل أنني سأترك بيروت في حياتي. كنا نعيش حلم التغيير والثورة على كل شيء، وجرى سلخي من جذوري». لكنّ أولى المفاجآت بالنسبة إليه كانت أنّه وجد بلداً يخلو من الحرب. بدت النمسا مضجرة: لغة جديدة، إشكاليات الاعتراف بالشهادة الثانوية اللبنانية، التعرّف إلى أخ بعد سنوات من الغربة ليصبح ولي أمره الجديد.
قرّر دراسة الموسيقى في الكونسرفاتوار وترك منزل أخيه ليواجه الحياة وحده. «عملت في مهن مختلفة، في مطعم بيتزا مساعد شيف، موزّع أوراق إعلانات في الشوارع، دهّان»، يخبرنا. اكتشف طعم الحرية، و«كانت مرحلة تعويضية عن كل ما سلبته الحرب مني: الحب، اكتشاف الجسد والمرأة. حتى السياسة، تعلمت ممارستها من دون معارك». شارك في حفلات الطلبة الفلسطينيين في فيينا، ونسج علاقات صداقة مع الفنانين النمساويين. في المعهد الموسيقي، درس العزف على الغيتار. وبعد فترة، التقى الأستاذ العراقي عاصم الشلبي الذي علّمه أصول العزف على العود. لم يكمل دراسته في المعهد وتوجّه إلى «قسم العلوم الموسيقية وعلم الشعوب» في الجامعة. في تلك المرحلة، أطلق شريط كاسيت بعنوان «التزام من نوع آخر». كان من أنشط الطلاب، وكان يلقي على مسامع زملائه محاضرات في الموسيقى العربية «المشكلة أن الآخر كان يراني مترجماً للموسيقى العربية. الإنسان الغربي يراك ضمن أطر محدّدة»، يقول. اليوم، يهتمّ كثيراً بمتابعة موهبة ابنته حنين في العزف على الآلات النفخيّة، وتقدّم ابنه رناد في العزف على الكمان. في فيينا، عاصمة الموسيقى العالمية. حاز عبادو الوسام الجمهوري لوزارة الثقافة النمساوية عام 2008 تكريماً لدوره في تعميق الحوار بين الثقافات. لكنّ ذلك لم ينسه أنّه «عربي فلسطيني لبناني حتى العظم».


5 تواريخ

1967
الولادة في مخيم ضبية للاجئين الفلسطينيين (لبنان)

1985
استقرّ في فيينا حيث تعلّم عزف العود على يد الأستاذ العراقي عاصم الشلبي

1996
أصدر باكورته «دواير» واتخذ قراره بالتفرغ للموسيقى. وفي العام التالي، زار القدس في إطار «مهرجان القدس الشرقية للجاز» وكانت تلك زيارته الأولى والأخيرة لبلاده

2008
منحته وزارة الثقافة النمساويّة وساماً جمهورياً لدوره في التقريب بين الحضارات

2010
جولة على سوريا ولبنان والأردن تحت عنوان «تبقى فلسطين موالي» بدعوة من «الأونروا»